دراسة
للأمـر الصادر من محكـمة العدل الدولية 2018
بالتأشير ببعض الاجراءات التحفظية في قضيـة
(قطر ضد الإمارات)
د عيسى حميد العنزي
و
د ندى يوسف الدعيج
جامعة الكويت – كلية الحقوق
:مختصر
تلعب محكمة العدل الدولية دورا أساسياً في تسوية المنازعات الدولية، والأهم دور المحكمة في اصدار الأوامر التحفظية، حيث تستطيع المحكمة وبشكل عاجل اصدار أمرها بالتأشير بالتدابير التحفظية لحين الحكم في موضوع النزاع، بهدف ضمان عدم تدهور الأوضاع بين طرفي النزاع وذلك دون المساس بأصل الحق.
وبالفعل فقد استفادت دولة قطر والإمارات من سلوك هذا الطريق، حيث أن المقاطعة السياسية والدبلوماسية والإقتصادية التي أعلنتها كل من مصر والسعودية والبحرين وانضمت لهم دولة الإمارات العربية ضد قطر، كان لها آثارها الإنسانية على مواطني قطر، خاصة المتواجدين في أو المتعاملين مع الإمارات أو لهم علاقات مع إماراتيين. وكان بعض هذه الآثار تشكل مساساً بالحقوق التي نصت اتفاقية حظر كافة أشكال التمييز على حمايتها، والتي يعتبر طرفي النزاع من الأعضاء المصدقين عليها، مما يفتح باب اللجوء لأيهما إلى المحكمة لحماية هذه الحقوق.
وبالفعل فقد أشرت المحكمة بثلاث تدابير من أصل سبعة تقدمت دولة قطر بطلبها من المحكمة، ورحبت الامارات بهذا الأمر ونفذته دون مجادلة أو معارضة أو مماحكة، مما عاد بالأثر الإيجابي على الأسر في كلا البلدين وعلى الطلبة القطريين والمواطنين القطريين الراغبين بطرق أبواب المحاكم القطرية.
والأهم من ذلك، التأكيد في الحكم على امتناع كلا الطرفين عن اتخاذ أية اجراءات من شأنها زيادة الوضع سوءاً أو التغيير في المراكز القانونية، مما يبث روحاً من الإطمئنان والسكينة بين سكان المنطقة بشأن زوال خطر الإقتحام العسكري الذي أثير أكثر من مرة.
ولمحكمة العدل الدولية سوابق في اصدار مثل هذه الأوامر، والأمر الذي يستحق منا دراسة هذا الأمر، من خلال استعراض للنزاع المعروض أمام المحكمة بين كل من قطر والامارات، ثم استعراض لشروط واجراءات وغايات هذه الأوامر، مع الاستشهاد ببعض الأوامر التي سبق للمحكمة أن أصدرتها في سنوات عملها الطويلة.
الكلمات المفتاح:
محكمة، العدل، الدولية، تحفظي، قطر، الإمارات، أمر، حكم، قاضي، حقوق، انسان
:مقدمة
تعتبر محكمة العدل الدولية من أهم الأجهزة القضائية في العالم، وهي أحد أهم أجهزة منظمة الأمم المتحدة، والذراع القضائي لها. وهي الجهاز الوحيد الذي ورث نشاط وأعمال المحكمة الدائمة للعدل الدولي التي انهارت مع انهيار عصبة الأمم. وهي الجهاز الوحيد من أجهزة الأمم المتحدة التي يدخل نظامها ضمن ميثاق الأمم المتحدة ويتمتع بذات قيمته القانونية.
ويقوم على هذه المحكمة عدد من القضاة (15 قاضي) من الأفضل بين قضاة كل دول العالم، ويتم اختيارهم بنظام محكم بالتعاون بين كل من مجلس الأمن الدولي والجمعية العامة، وبتجديد مدة ثلثهم كل ثلاث سنوات.
ويتمتع قضاتها بحصانات ومخصصات مالية تحول دون قدرة أي طرف من أطراف التقاضي على التأثير على قناعاتهم القانونية والواقعية التي يبنون عليها أحكامهم، والتي تعتبر مصدراً من مصادر القانون الدولي.
وقد لجأت اليها العديد من دول العالم لحل نزاعاتها أمام المحكمة. إلا أن أعضاء مجلس التعاون لدول الخليج العربية قلما تلجأ لمحكمة العدل الدولية لتسوية نزاعاتها على الرغم من وجود الأساس القانوني لمثل هذا اللجوء. ولا شك بأن دولة قطر من الدول التي تنشط على الساحة الدولية، وانعكس نشاطها هذا على الساحة القانونية، حيث سبق لها أن لجأت إلى محكمة العدل الدولية لتسوية نزاعها مع مملكة البحرين بشأن الحدود البحرية عام 2001، وكان لهذا الحكم الفضل في نزع فتيل نزاع مسلح كاد يندلع بين الطرفين.
كما أن قيام دولة الإمارات العربية المتحدة بالتضامن مع كل من جمهورية مصر العربية ومملكة البحرين والمملكة العربية السعودية في مقاطعة وحصار دولة قطر عام 2012، كان له أبلغ الأثر في توتير الأجواء بين هذه الدول، وكاد أن يتحول هذا التوتر إلى نزاع مسلح، أشار له صاحب السمو أمير دولة الكويت في مؤتمره الصحفي في واشنطن. إلا أن دولة قطر لم تتردد في اللجوء للمرة الثانية لمحكمة العدل الدولية للبت في النزاع القائم بينها وبين دولة الإمارات العربية المتحدة بشأن ما ورد في مذكراتها من ممارسات تمييزية تمارسها السلطات الإماراتية في مواجهة المواطنين القطريين.
وبالفعل فقد نزعت محكمة العدل الدولية فتيل الأزمة من خلال اصدارها الأمر باتخاذ الإجراءات التحفظية التي تكفل عدم اتخاذ أية اجراءات تمييزية – فقط - في بعض المجالات المهمة في مواجهة مواطني قطر، وذلك لحين فصل محكمة العدل الدولية في النزاع الموضوعي بين الدولتين بهذا الشأن.
ولبحث ما تطرق له الأمر الصادر من المحكمة في هذا الخصوص، فلا بد من استعراض نبذة عن موضوع النزاع بين دولتي الإمارات وقطر، ثم استعراض اختصاص المحكمة في اتخاذ الإجراءات الوقتية، وبعدها استعراض الشروط اللازمة لإصدار الإجراءات الوقتية، وأخيراً الأهداف التي يسعى الأمر إلى تحقيقها، كل ذلك بالتطبيق على الأمر الصادر من محكمة العدل الدولية بالتأشير بالاجراءات التحفظية في النزاع القطري.
ويهدف هذا البحث إلى ابراز أهمية الأجهزة القضائية في المنظمات الدولية مثل محكمة العدل الدولية التابعة للأمم المتحدة في نزع فتيل الأزمات الدولية، وذلك بشكل فوري من خلال الأجراءات الوقتية التي تضمن عدم تدهور العلاقات بين الدول أطراف النزاع وانزلاقها نحو اللجوء إلى القوة. مع التأكيد على أن محكمة العدل الدولية على الدوام تنظر للدول المتنازعة على قدم المساواة، دون تمييز بين كبيرها وصغيرها، قويها وضعيفها. ولا يغيب عن البال التأكيد على أن الإجراءات الوقتية لا تحسم النزاع بين أطرافه، ولكن تضمن عدم الإقدام نحو المزيد من التوتر، الأمر الذي يترتب عليه عدم التزام المحكمة بتلبية كافة الطلبات التحفظية التي تتقدم بها الدول، وإنما تصدر أوامرها فقط بالضروري والملح منها. كما أن اصدار هذه الأوامر لصالح دولة ما لا يعني بالضرورة التزام المحكمة باصدار حكمها في الموضوع لصالح ذات الطرف في النزاع.
من خلال هذا البحث تم تبني الأسلوب الوصفي التحليلي المقارن، وذلك من خلال وصف لمراحل النزاع، ووصف للإجراءات التي اتبعتها المحكمة. كما حرصنا على التحليل القانوني العلمي لكل اجراء من الإجراءات التي تقدمت بطلبها أو بالاعتراض عليها أطراف النزاع ومبرراته القانونية. وأخيرا كان للسوابق القضائية التي تعرضت لها محكمة العدل الدولية عبر تاريخها في العمل أبلغ الأثر فيما قدمناه من مقارنات بين هذه السوابق القضائية والأمر محل الدراسة.
:أولاً: نبذة عن موضوع النزاع
تعتبر دولة الإمارات العربية المتحدة ودولة قطر من أعضاء الأمم المتحدة، وفي نفس الوقت هم أعضاء في جامعة الدول العربية ومظمة التعاون الإسلامي ، والأوبك والأوابك ، والأهم من ذلك أنهما أعضاء مؤسسين في مجلس التعاون لدول الخليج العربية. وبحكم علاقة الجوار بينهما، ووحدة اللغة والدين والعادات المشتركة، أصبحت هناك علاقات أوثق بين الأسر في كلتا الدولتين من خلال التزاوج، وتبادل المصالح المشتركة، حيث تمارس معظم الشركات القطرية أعمالها في دولة الإمارات ويدرس أبناؤها فيها، والعكس صحيح، حتى وصل الأمر إلى التنقل بين البلدين بموجب البطاقات الوطنية دون حاجة لوثائق السفر (الجوازات). بل وكان البلدان ينتهجان سياسة متقاربة ما لم تكن متطابقة، فشارك كلاهما في تحرير دولة الكويت، وعرفا بدعمهما للقضايا العربية والإسلامية، وانفتاحهما الاقتصادي الفريد، حتى أنهما أصبحا يملكان كبريات شركات الطيران العالمية (الخطوط الجوية القطرية والخطوط الجوية الإماراتية وشركة طيران الإتحاد).
إلا أن الأمر تحول وبشكل مفاجئ، من التقارب والتطابق إلى التنافر والمقاطعة، بل وأثيرت معلومات عن احتمال وشيك لغزو عسكري وإحتلال. وكإجراء جماعي من دول المقاطعة (السعودية، الإمارات، البحرين، مصر) ضد دولة قطر، نتيجة فشل المفاوضة بينهم، بشأن أمر ما لا يمكن التوصل إلى حقيقته الكاملة والدامغة، قررت هذه الدول في 5 يونيو 2017 قطع العلاقات الدبلوماسية مع دولة قطر واغلاق الحدود والأجواء معها، ومنع العبور عبر الأراضي أو المياه أو الأجواء السعودية من أو إلى قطر، بل وأفادت بعض المصادر على أنه تم الطلب من مواطني قطربمغادرة دول المقاطعة خلال 14 يوم، وتم ابعاد المواطنين القطريين من الإمارات ابعادا جماعياً، ومنعهم من العودة إليها، مما تسبب في فصل أفراد الأسرة الواحدة من القطريين عن من هم سواهم من أفراد الأسرة من غير القطريين، أبناءً وأزواجاً أو زوجات، ومنع الطلبة القطريين من استكمال دراستهم في دولة الإمارات، ووقف الرعاية الصحية للقطريين الذين يتعالجون في دولة الامارات، واجبارهم على ترك أعمالهم وتجارتهم وممتلكاتهم في الإمارات، بل ومنعهم من الحق في ابداء الرأي، ونشر روح الكراهية ومنع وتجريم التعاطف مع قطر أو القطريين، واغلاق باب اللجوء إلى المحاكم أمام القطريين والحيلولة دون حصولهم على تعويضات بسبب هذه الإجراءات. إلا أن قطر لم تقابل هذه الإجراءات باجراءات مماثلة، فلم تطرد المواطنين السعوديين أو البحرينيين أو المصريين أو تمنعهم من الدخول إليها لأي سبب من الأسباب، وهو ما كان له أبلغ الأثر في تعزيز الموقف القطري أمام محكمة العدل الدولية في طلب التدابير التحفظية والتي صدرت لصالحها فقط دون أن تصدر عليها أي تأشيرات بأية تدابير تحفظية، للسببين التاليين: أ) لأنها لم ترتكب أية مخالفات للإتفاقية الخاصة بالقضاء على كافة أشكال التمييز العنصري، ب) ولأن دولة الإمارات لم تطلب بالمقابل من المحكمة أن تتخذ أي اجراء ضد قطر، إما لأنها لا ترغب بذلك، أو ليقينها بعدم وجود سند قانوني لمثل هذه الطلبات.
وقد ألحقت هذه التدابير الصادرة بحق مواطني قطر أبلغ الضرر بدولة قطر، مؤسسات وأفراد، فأضحت الخطوط الجوية القطرية لا تملك الطيران غرباً، مما أطال رحلاتها المتجهة إلى الجزء الغربي من الكرة الأرضية، ثم زاد تكاليف تشغيلها. واضطرت الحكومة إلى تعويض البضائع والسلع الإستهلاكية التي كانت مصدرها دول المقاطعة ببضائع أعلى تكلفة ومن دول أبعد مسافة، وغيرها من اضرار ليس هذا مجال حصرها أو حسابها، فكان لقطر مسلكها الخاص بهذا الشأن في طرق باب منظمة الطيران العالمية للتظلم من هذه الإجراءات.
لكن الأكثر أيجابية في هذه الأزمة هو التزام الدول الأطراف بمبدأ تسوية المنازعات سلمياً، وعدم اللجوء إلى القوة. وهو ما دفع بدولة قطر إلى اللجوء إلى محكمة العدل الدولية للنظر في النزاع موضوع هذا البحث، ودفع دول المقاطعة إلى اللجوء بتاريخ 4/7/2018 إلى محكمة العدل الدولية للطعن على قراري مجلس المنظمة الدولية للطيران المدني برفض الدفوع المقدمة من دول المقاطعة بشأن شكوى قطر.
ثانياً: اختصاص المحكمة في اصدار التدابير التحفظية قرين باختصاصها في الموضوع:
ينعقد اختصاص محكمة العدل الدولية في التأشير بالإجراءات الوقتية بناء على نص المادة 41 من النظام الأساسي لمحكمة العدل الدولية، والتي تنص على أن:
"1- للمحكمة أن تقرر التدابير المؤقتة التي يجب اتخاذها لحفظ حق كل من الأطراف وذلك متى رأت أن الظروف تقضي بذلك. 2- إلى أن يصدر الحكم النهائي يبلغ فورا أطراف الدعوى ومجلس الأمن نبأ التدابير التي يرى اتخاذها."
وكذلك أكدت المادة 73 من النظام الداخلي للمحكمة على هذا الاختصاص، حيث نصت على أن:
"1- يجوز لأي طرف أن يقدم طلباً خطياً بتقرير تدابير تحفظية في أي وقت أثناء السير في اجراءات القضية التي يقدم الطلب بصددها، 2- يحدد الطلب الأسباب التي يستند إليها والنتائج التي قد تترتب على عليه والتدابير المطلوبة. ويحيل المسجل فوراً الى الطرف الخصم صورة عن الطلب مصدقة طبق الأصل.
كما تنص المادة 74 من ذات النظام على أن "1- تكون لطلب تقرير التدابير التحفظية الأولوية على جميع القضايا الأخرى. 2- إذا كانت المحكمة غير منعقدة وقت تقديم الطلب، تدعى فورا للانعقاد للبت في هذا الطلب على وجه الاستعجال. 3- تحدد المحكمة، أو يحدد الرئيس اذا كانت المحكمة غير منعقدة، موعداً للاستماع إلى الطلب بحيث يتيح للأطراف الفرصة لتمثيلهم في الجلسات. وتقبل المحكمة تسلم ملاحظات تقدم إليها قبل اقفال باب المرافعة الشفوية، وتضع هذه الملاحظات في اعتبارها. 4- يجوز للرئيس، ريثما تنعقد المحكمة، أن يدعو الأطراف الى التصرف على نحو يمكن معه لأي أمر قد تصدره المحكمة بصدد طلب التدابير التحفظية أن يحقق الأثر المنشود منه."
وفي نفس السياق نصت المادة 75 من النظام الداخلي للمحكمة على أن:
"1- للمحكمة أن تقرر في أي وقت، من تلقاء نفسها، النظر فيما إذا كانت ظروف القضية تستدعي تقرير تدابير تحفظية يتعين على أي من الأطراف أو على الأطراف جميعاً اتخاذها أو تنفيذها. 2- للمحكمة عندما يعرض عليها طلب بتقرير تدابير تحفظية أن تقرر تدابير مختلفة اختلافاً كلياً أو جزئياً عن التدابير المطلوبة، أو أن تقرر تدابير ينبغي أن يتخذها أو ينفذها الطرف ذاته الذي تقدم بالطلب. 3- لا يحول رفض طلب تقرير تدابير تحفظية دون قيام الطرف الذي قدمه بتقديم طلب جديد في القضية نفسها استناداً الى وقائع جديدة."
وعليه فقد انعقد قانوناً الإختصاص لمحكمة العدل الدولية في تقرير ما إذا كانت هناك ظروف تستوجب اصدار الأوامر التحفظية من عدمه، إلا أن الأمر يرتبط وجوداً وعدما باختصاص المحكمة في نظر موضوع النزاع أصلاً والمعروض أمامها في المقام الأول، وقد أثبتت السوابق القضائية لمحكمة العدل الدولية هذا الإرتباط. وفي ذلك صرحت محكمة العدل الدولية بثبوت العلاقة بين موضوع النزاع والإجراءات التحفظية التي تطلبها حكومة دولة قطر.
وبما أن القضية القطرية الإماراتية المتعلقة بتطبيق اتفاقية حظر كافة أشكال التمييز العنصري قد تم تقديمها للمحكمة من قبل دولة قطر بتاريخ 11 يونيو 2018، وذلك في أعقاب الأزمة التي اندلعت بين كل من المملكة العربية السعودية ومملكة البحرين وجمهورية مصر العربية ودولة الإمارات العربية المتحدة من ناحية ودولة قطر من ناحية أخرى. وفي بداية يونيو 2017 اعلنت كل من المملكة العربية السعودية ومملكة البحرين ودولة الإمارات العربية المتحدة وجمهورية مصر العربية قطع العلاقات الدبلوماسية مع دولة قطر، وصرحت دولة الامارات العربية على لسان وزير خارجيتها بضرورة خروج مواطني دولة قطر خلال 14 يوم من دولة الامارات العرية المتحدة، فإنه يقوم اختصاص محكمة العدل الدولية في النظر في الإجراءات الوقتية بناءً على اختصاصها في مسائل الموضوع أساساً، فإذا لم ينعقد لها الاختصاص الموضوعي، لا ينعقد لها بالتبعية الإختصاص في التأشير بالاجراءات الوقتية. ويقوم اختصاص المحكمة الموضوعي على نص المادة 36 فقرة (1) من النظام الاساسي لمحكمة العدل الدولية.
وفي السنوات الأخيرة بدا أن محكمة العدل الدولية تقوم بإيلاء مسائل حقوق الإنسان أهمية في أحكامها وآرائها الإستشارية، ويأتي هذا الإهتمام من الخبرة التي تحصل عليها معظم قضاة المحكمة من خلال مشاركاتهم السابقة في اللجان المنبثقة عن اتفاقيات حقوق الإنسان أو كمبعوثين خاصين للأمم المتحدة، والنزاع محل الأمر التحفظي يقوم على أساس انتهاك اتفاقية حظر كافة أشكال التمييز العنصري.
وفقاً لنص المادة 36 من النظام الأساسي لمحكمة العدل الدولية فإن ولاية محكمة العدل الدولية تشمل "جميع القضايا التي يعرضها عليها المتقاضون، كما تشمل جميع المسائل المنصوص عليها بصفة خاصة في ميثاق "الأمم المتحدة" أو في المعاهدات والاتفاقات المعمول بها،" وبناء عليه فقد انعقد الإختصاص للمحكمة في كثير من القضايا التي فصلت فيها في أوقات سابقة، بما في ذلك الشكوى القطرية التي تقوم أساساً بشأن تطبيق اتفاقية حظر كافة اشكال التمييز العنصري، التي تنص في المادة 22 منها على أنه "في حالة أي نزاع ينشأ بين دولتين أو أكثر من الدول الأطراف بشأن تفسير هذه الاتفاقية أو تطبيقها وتتعذر تسويته بالمفاوضة أو الإجراءات المنصوص عليها صراحة في هذه الاتفاقية، يحال هذا النزاع بناء علي طلب أي من أطرافه، إلي محكمة العدل الدولية للفصل فيه، ما لم يتفق المتنازعون علي طريقة أخري لتسويته." وفي سابقة مضت أمام المحكمة عام 2008 بين كل من جورجيا وروسيا، أكدت المحكمة على أهمية التأشير بالإجراءات التحفظية في المراحل الأولى للنزاع، إلا أنها لم تصرح بشأن اختصاصها بالنظر في موضوع الدعوى.
وإنه من الجلي أن نص المادة 22 تؤكد على ضرورة توافر شرطين لانعقاد الاختصاص لمحكمة العدل الدولية في نظر النزاع المتعلق بتفسير أو تطبيق نصوص اتفاقية حظر كافة أشكال التمييز العنصري، وهي: 1) عدم اتفاق طرفي النزاع على وسيلة اخرى غير محكمة العدل الدولية لتسوية النزاع، 2) تعذر تسوية النزاع بالمفاوضة أو الإجراءات المنصوص عليها في الاتفاقية. وهو ما سنتناوله بشيء من التفصيل، وفقاً لدفوع كل طرف من الأطراف في القضية.
1
) عدم اتفاق طرفي النزاع على وسيلة أخرى غير محكمة العدل الدولية لتسوية النزاع
إن وسائل تسوية النزاعات كثيرة وعديدة، وقد كان مبدأ التسوية السلمية للمنازعات السلمية أحد أهم المبادئ الواردة في نص المادة 2 (3) من ميثاق الأمم المتحدة "يفض جميع أعضاء الهيئة منازعاتهم الدولية بالوسائل السلمية على وجه لا يجعل السلم والأمن والعدل الدولي عرضة للخطر." كما خصص ميثاق الأمم المتحدة فصلاً خاصاً للسوية السلمية للمنازعات الدولية، وأوردها في نص المادة 33، حيث جاء نصها على أنه "يجب على أطراف أي نزاع من شأن استمراره أن يعرض حفظ السلم والأمن الدولي للخطر أن يلتمسوا حله بادئ ذي بدء بطريق المفاوضة والتحقيق والوساطة والتوفيق والتحكيم والتسوية القضائية، أو أن يلجأوا إلى الوكالات والتنظيمات الإقليمية أو غيرها من الوسائل السلمية التي يقع عليها اختيارها."
وقد سعى صاحب السمو أمير دولة الكويت الشيخ صباح الأحمد منذ فجر اندلاع الأزمة بين البلدين، وكذلك بين قطر والمملكة العربية السعودية ومملكة البحرين وجمهورية مصر العربية، على القيام برحلات مكوكية بين عواصم الدول الأطراف لمحولة نزع فتيل الأزمة من خلال لعب دور الوسيط. كما أن كلا البلدين، الإمارات وقطر، هما أعضاء في مجلس التعاون لدول الخليج العربية التي تحتضن هيئة تابعة للمجلس الأعلى لفض المنازعات. ولم تطرق الدول الأطراف في هذا النزاع ولم تحاول الإستفادة من أية وسيلة من الوسائل التي سبق الإشارة إليها.
كما أن محكمة العدل الدولية وفي الأمر محل الدراسة أكدت على أن أي من طرفي النزاع لم ينازع في أنه لم يتم الإتفاق على طرق أية وسيلة أخرى من وسائل تسوية النزاعات سلمياً. وبالتالي فقد تحقق الشرط الأول من شروط اللجوء لمحكمة العدل الدولية وفقاً لنص المادة 22.
2
) تعذر تسوية النزاع بالمفاوضة أو الإجراءات المنصوص عليها في الاتفاقية
يعتبر الشرط الثاني الذي تطلبه نص المادة 22 هو أن يتعذر على طرفي النزاع تسويته بالمفاوضة أو الإجراءات المنصوص عليها باتفاقية حظر كافة أشكال التمييز العنصري. وعليه وفي هذا المقام، لا بد من التأكد من جزئيتين، الأولى تعذر تسوية النزاع بالمفاوضة، والثانية تعذر تسوية النزاع بالاجراءات المنصوص عليها في الاتفاقية الخاصة بحظر كافة أشكال التمييز العنصري.
أ) تعذر تسوية النزاع بالمفاوضة:
إن اتخاذ دولة الإمارات قرارها بالتضامن مع كل من المملكة العربية السعودية ومملكة البحرين وجمهورية مصر العربية في قطع العلاقات الدبلوماسية مع قطر في الخامس من يونيو 2017، وسحب بعثتها الدبلوماسية من هناك وإمهال البعثة القطرية 48 ساعة لمغادرة الأراضي الإماراتية، لهو عقبة حالت دون تسوية النزاع بالمفاوضة، حيث تم اغلاق القنوات الدبلوماسية بين البلدين. كما أن جهود المساعي الحميدة والوساطة التي قادها لصاحب السمو الشيخ صباح الأحمد لم تثمر في جمع الاطراف المعنية على طاولة المفاوضات، مما يصبح معه ها الشرط متحققاً، دون شك أو لبس.
وقد أفادت قطر في مذكراتها أمام المحكمة أنها بذلت مساع حقيقية للدخول في مفاوضات مع الإمارات بهدف انهاء هذا النزاع ووضع حد للمعاناة الانسانية التي يتعرض لها مواطنوها في دولة الإمارات. وتأكيداً لتلك المحاولات، استحضرت دولة قطر الإعلان الموجه من وزير خارجيتها بتاريخ 25 فبراير 2018 لمجلس حقوق الإنسان في الأمم المتحدة، والرسالة الموجهة من وزير خارجيتها بتاريخ 25 أبريل 2018 والتي تشير صراحة لإنتهاك اجراءات الامارات المؤرخة في 5 يونيو 2017 لعدد من نصوص اتفاقية حظر كافة أشكال التمييز العنصري وضرورة الدخول الفوري في مفاوضات لإنهاء هذه الانتهاكات والأضرار التي تسببت بها. ولم ترد الإمارات عليها على الرغم من تحديد فترة أسبوعين للرد. وهو ما اعتبرته دولة قطر على أنه رفض أو تجاهل للمحاولات القطرية لتسوية النزاع عن طريق المفاوضة.
وقد أنكرت دولة الإمارات قيام دولة قطر بمحاولات حثيثة للجلوس إلى طاولة المفاوضات، وأن إعلان وزير خارجية قطر المؤرخ في 25 فبراير 2018 إنما جاء في معرض استعراض عام لانتهاكات روتينية لحقوق الإنسان، دون أن تتضمن دعوة صريحة للإمارات للجلوس إلى طاولة المفاوضات. أما بالنسبة لرسالة وزير خارجية قطر المؤرخة في 25 أبريل 2018 فإن دولة الإمارات تكرر بأن الرسالة جاءت عامة في فحواها، ولم تشر لا من قريب ولا بعيد لنص المادة 22 من اتفاقية حظر كافة أشكال التمييز العنصري، كما أكدت المذكرة الإماراتية أن عرض المفاوضة هذا جاء على شكل انذار، وأنه جاء بعد عام كامل من اصدار وزارة الخارجية الإماراتية لطلبها مغادرة المواطنين القطريين خلال 14 يوم. كما أكدت في مذكراتها أنها لم ترفض كما لم تقبل المفاوضات التي أشار لها الجانب القطري. وبالتالي تحاول دولة الإمارات إيصال رسالة أنه وإن لم يتم تسوية النزاع بالمفاوضة، إلا أنه لم تكن هناك مساع حثيثة من أجل تحقيق ذلك.
وفي هذا المقام أكدت المحكمة على أن أياً من الأطراف لم يعترض على حقيقة قيام ممثلي دولة قطر في عدة مناسبات بإثارة الإجراءات التي اتخذتها دولة الإمارات في يونيو 2018 على الصعيد الدولي بما في ذلك الأمم المتحدة وبحضور ممثل دولة الإمارات العربية، ومنها أثناء الدورة 37 لمجلس حقوق الإنسان للأمم المتحدة المنعقدة في فبراير 2018 حيث أشار وزير خارجية قطر لما تعانيه بلده من أضرار إنسانية جراء المقاطعة المفروضة ضدها والتي أكد عليها تقرير المفوض السامي لحقوق الإنسان، فيما اكتفت دولة الإمارات بإصدار بيان مشترك مع كل من السعودية والبحرين ومصر. وأكدت المحكمة في هذا المقام على أن الرسالة المرسلة من وزير خارجية قطر إلى نظيره الإماراتي بتاريخ 25 أبريل 2018 والتي أشار فيها ضرورة الدخول في مفاوضات خلال اسبوعين، وهو ما لم ترد عليه دولة الإمارات على الرغم من الطلب الصريح للجلوس على طاولة المفاوضات، مما يعتبر معه تحقق هذا الشرط للجوء إلى المحكمة.
ب) تعذر تسوية النزاع بالاجراءات المنصوص عليها في اتفاقية حظر كافة أشكال التمييز العنصري:
لتأكيد تعذر تسوية النزاع بالاجراءات المنصوص عليها في الاتفاقية فإن دولة قطر أفادت بأنها بتاريخ 8 مارس 2018، أودعت بلاغاً لدى اللجنة المنبثقة عن اتفاقية حظر كافة أشكال التمييز العنصري وفقاً لنص المادة 11 من الاتفاقية طلباً لتسوية النزاع ودياً وقبل اللجوء للمحكمة.
وتؤكد دولة قطر في مذكراتها لدى محكمة العدل الدولية بأن عدم سلوك هذا الطريق – طرق باب اللجنة المنبثقة عن اتفاقية حظر كافة أشكال التمييز العنصري - لا يحول دون ممارسة المحكمة لإختصاصها في هذه الدعوى، وأن النظر بشأن اجتماع الشرطين الواردين في نص المادة 22 من الاتفاقية لا يمنع المحكمة من ممارسة اختصاصها، كما أنه ليس من اختصاص المحكمة البحث بشأنه في مرحلة التأشير بالاجراءات التحفظية، وإنما في مرحلة نظر الموضوع.
وقد اعترضت دولة الإمارات على هذا الدفع، مؤكدة على أن توافر الشرطين وتحققهما بنجاح لهو ضرورة لازمة قبل إنعقاد المحكمة للنظر في التأشير بالإجراءات التحفظية، فالمبادئ القانونية الراسخة في القانون تحول دون نظر المحكمة لنفس الدعوى المنظورة أمام جهة أخرى، خاصة مع وحدة الموضوع والأشخاص. وأفادت دولة الإمارات أنه لم ينمو إلى علمها البلاغ الذي تقدمت به دولة قطر إلى اللجنة المنبثقة عن اتفاقية حظر كافة أشكال التمييز العنصري إلا بتاريخ 7 مايو 2018، وبنفس الوقت لجأت بتاريخ 11 يونيو 2018 إلى محكمة العدل الدولية للمطالبة بالتأشير بالاجراءات التحفظية دون انتظار لما قد يتمخض عنه البلاغ المقدم إلى لجنة مكافحة كافة أشكال التمييز العنصري. مما يعطي الإيحاء بأن الإجراءات قد تم طرقها فقط لإستكمال الشكل، وليس من أجل العمل بجد لحل النزاع بالطرق السلمية التي رسمها القانون.
أما المحكمة فقد أكدت في أمرها على أن مسألة اللجوء للجنة حظر كافة أوجه التمييز العنصري وفق نص المادة 11 من اتفاقية حظر التمييز العنصري إنما هو اختيار لا التزام، وأن دولة قطر في طلبها لا تعول كثيراً على نص المادة 11، وأن المحكمة تميل إلى الرأي الوارد في سوابقها القضائية التي لا تتطلب البحث في هذه المسألة في مرحلة المقبولية بالنسبة لللأوامر الخاصة بالاجراءات التحفظية. وبالتالي فإن المحكمة ترى أن مسألة الإختصاص والمسائل الإجرائية قد اكتملت تمهيداً لإتخاذ أمرها بالإجراءات التحفظية.
وبالفعل فقد تقدمت دولة قطر بتاريخ 11 يونيو 2018 بطلبها الى قلم كتاب محكمة العدل الدولية (Greffe) للنظر بنزاعها القائم مع دولة الامارات العربية المتحدة المتعلق بانتهاك الأخيرة لنصوص الاتفاقية الدولية الخاصة بحظر كافة أشكال التمييز العنصري المؤرخة في 21 ديسمبر 1965، وفي نفس الوقت تقدمت دولة قطر للمحكمة بطلب التأشير ببعض الاجراءات التحفظية، وهو ما يؤكد ارتباط الإختصاص الموضوعي للمحكمة بالنزاع مع اختصاصها بالتأشير بالإجراءات التحفظية وجوداً وانعداماً، إلا أننا نؤكد على أن تكون هناك جدية في محاولة تسوية النزاع قبل اللجوء للمحكمة، وهذه الجدية
وبناء على ما سبق فقد كان قرار المحكمة بانعقاد اختصاصها بنظر النزاع وبالتالي حقها في الفصل في مسألة اصدار الأوامر التحفظية، حيث توصلت بعد جلسات الإستماع لكل من الجانب القطري والإماراتي إلى أن "العناصر التي تمت إثارتها في هذه المرحلة أمام المحكمة تكفي لإثبات وجود نزاع بشأن تطبيق وتفسير اتفاقية حظر كافة أشكال التمييز العنصري" مما ينعقد معه الإختصاص للمحكمة.
تدور مسألة الجدية في محاولة تسوية النزاع في فلك نوع وكم هذه الوسائل وجودا وانعداماً. فلا بد أن تكون نوعية الوسائل المنشودة وطرق التواصل المستخدمة بين المتخاصمين توحي بجدية الرغبة في تسوية النزاع، فلا يكفي المحاولة المباشرة في ظل التوتر الدبلوماسي بين البلدين، والذي لن ينجم عنه إلا تجاهل مثل هذه المحاولات أو حتى صدها في بعض الأحيان. وكان حري من دولة قطر اختيار وسيط مقبول، مثل صاحب السمر أمير دولة الكويت، لنقل مثل هذه الرسائل والعمل على إقناع الطرف المعني بقبول محتواها كله أو بعضه. كما لا يكفي إرسال رسالة واحدة، والأدهى من ذلك تضمينها فترة زمنية بضرورة الرد خلال أسبوعين، الأمر الذي يثير من تشنج الطرف الآخر ويدفعه نحو تجاهلها أو ردها. وكان حري بالجانب القطري تكرار المحاولة، مباشرة أو عن طريق وسيط، دون الإشارة وفي أول رسالة لمهلة زمنية من شأن عدم الرد عليها أن يعتبر بمثابة رفض لها. الأمر الذي يبرز للمتابع تعنت الطرف الإماراتي، وتأجيج هذا التعنت بسبب الأسلوب الذي تتبعه الدبلوماسية القطرية.
إلا أن المحكمة، لا يعنيها أطراف النزاع آنذاك، وإنما يعنيها وقف النزيف الذي يتعرض له الوضع الإنساني للضحايا من أبناء دولة قطر جراء الإجراءات التعسفية المخالفة لإتفاقية حظر كافة أشكال التمييز العنصري.
وفي محاولة انتقامية، تقدمت دولة الإمارات بتاريخ 23 مارس 2019 بطلب التأشير ببعض الإجراءات التحفظية ضد دولة قطر، إلا أن المحكمة انتهت إلى رفض هذه الطلبات الأربع بسبب انعقاد الإختصاص لها بنظر النزاع، والذي حسمته بالأمر موضوع هذا البحث، وبالتالي لا يجوز إعادة إثارته بعد انعقاد الإختصاص للمحكمة، والذي لا يرتبط باختصاص لجنة مكافحة التمييز العنصري المنبثقة عن اتفاقية حظر كافة أشكال التمييز العنصري.
ثالثاً: الشروط الواجب توافرها لاصدار قرار المحكمة
:
لقد سبق لمحكمة العدل الدولية أن أشرت بالتدابير التحفظية بشأن الحقوق الواردة في الإتفاقية الدولية الخاصة بالقضاء على كافة أشكال التمييز العنصري خاصة عندما تكون محل تهديد لإجراءات تتسم بالتمييز العنصري. وللتأشير بهذه التدابير التحفظية لا بد من توافر شروط معينة.
تنقسم الشروط لاستصدار أمر بالتأشير بالاجراءات التحفظية الى قسمين، إما شروط موضوعية وإما شروط شكلية .وفي النزاع القائم بين دولة قطر ودولة الامارات العربية المتحدة توافرت الشروط الشكلية والموضوعية اللازمة لقضاة محكمة العدل الدولية للتأشير ببعض الاجراءات التحفظية التي تقدمت بها دولة قطر، وتتمثل هذه الشروط في:
(1) الشروط الموضوعية لإصدار الاجراءات التحفظية:
تنحصر الشروط الموضوعية لإصدار محكمة العدل الدولية للتدابير التحفظية في توافر حالة الاستعجال وعدم امكانية التعويض عن الضرر حال حدوثه وأن تكون المحكمة مختصة أصلاً في النزاع الموضوعي لتنظر التدابير التحفظية على سبيل التبعية وألا يكون من شأن البت في التدابير التحفظية المساس بأصل الحق، وأن تكون هناك علاقة بين الطلب التحفظي والطلبات الموضوعية بحيث تتواجد معه وجوداً وعدماً، وقد شرحت المحكمة توافر هذه الظروف من خلال السوابق القانونية التي عرضت عليها.
(أ) توافر حالة الاستعجال أو أن تتطلب ظروف الدعوى ذلك:
يقصد بحالة الاستعجال قيام الضرورة الداعية الى اتخاذ الاجراء المؤقت المطلوب، بحيث يكون من شأن التأخير فيها وقوع ضرر لا يمكن ازالته، ولا يمكن معه انتظار صدور حكم المحكمة في موضوع النزاع. وطالما أن المحكمة غلب لديها الظن باحتمال وقوع ضرر غير قابل لللإصلاح قبل أن تقول المحكمة قالتها بموضوع النزاع، فإن المسألة تضحى عاجلة تستوجب التصدي لها.
ولا يمكن للمحكمة أن تؤشر بالتدابير التحفظية ما لم يكن هناك أمر عاجل، بمعنى أن يكون هناك خطر حال إن وقع لا يمكن إصلاح ما ينجم عنه من أضرار وبشكل يؤثر على الحقوق محل الاختصاص الموضوعي. وقد كان للمحكمة عدد من السوابق حددت فيها المقصود بحالة الضرورة والخطر الحال، وبالتالي على المحكمة أثناء فحصها للطلب أن تقرر بشأن وجود هذا الخطر من عدمه.
وقد اعتبرت المحكمة، في قضية النزاع القطري الاماراتي، أن بعض الحقوق محل النظر في الدعوى، خاصة الواردة في المادة 5 فقرات (أ، د، هـ) من اتفاقية حظر التمييز، من شأن انتهاكها أن يتسبب بطبيعته بأضرار غير قابلة للإصلاح. ووفقاً لما قدمه طرفا النزاع أمام المحكمة، فإنها ترى أن القطريين المقيميمن في دولة الإمارات قبل 5 يونيو 2017 في وضع حساس بالنسبة لحقوقهم الواردة في نص المادة 5 من اتفاقية حظر التمييز. وقد ارتأت المحكمة أن اجبار العديد من الأفراد على مغادرة مساكنهم دون أي احتمال للعودة إليها، قد يتسبب بأضرار غير قابلة للإصلاح.
وقد وضعت المحكمة في الإعتبار رد الممثل الإماراتي في المرافعة الشفوية على سؤال أحد أعضاء المحكمة، بأن دولة الإمارات، بعد تصريح ممثل الحكومة الرسمي بضرورة مغادرة جميع القطريين البلاد خلال 14 يوم، لم تصدر أية قرارات عبر إدارة الهجرة لتأكيد طرد المواطنين القطرين من دولة الإمارات، ولم تتخذ أية اجراءات على أرض الواقع لإبعادهم عن البلاد، مما كان له أبلغ الأثر في وصول المحكمة لنتيجة أن "هناك خطراً حالاً بأن الإجراءات المتخذة بواسطة دولة الإمارات العربية من شأنها أن تتسبب بأضرار غير قابلة للإصلاح للحقوق المثارة بواسطة دولة قطر،" خاصة وأنها لم تتراجع عن تصريح 5 يونيو 2017 ولم تتخذ اجراءات للتأكيد على تراجعها عن هذا التصريح.
(ب) عدم امكانية التعويض عن الضرر:
درجت محكمة العدل الدولية وقبلها محكمة العدل الدولية الدائمة على ألا تصــدر الاجراءات التحفظية الا بالنسبة للأضرار الغير قابلة للتعويض(Les Droits Irreparables)، وذلك بسبب الطبيعة الاستثنائية لمثل هذه الاجراءات.
وخلال القضية محل النظر أكدت مذكرات دولة قطر على أن محكمة العدل الدولية سبق لها أن أرست مبدأ أن "الحقوق السياسية والمدنية والاقتصادية والإجتماعية الواردة في نص المادة (5) من اتفاقية القضاء على أشكال التمييز العنصري هي حقوق يعتبر الإعتداء عليها مسبباً لأضرار ذات طبيعة غير قابلة للإصلاح."
وقد برز للمحكمة أثناء الجلسات بأن حكومة دولة الإمارات قد جرمت التعاطف مع قطر والقطريين، وغضت الطرف عن، بل شجعت الهجمات الإعلامية وبث روح الكراهية في مواجهتهم، الأمر الذي يرفع من احتمال وقوع اعتداءات وانتهاكات لا يمكن اصلاحها أو معالجتها، الأمر الذي أشرت معه المحكمة بالفعل بالتدابير التحفظية تحت هذه الظروف.
إلا أنه ومن وجهة نظر المحكمة فإن الأضرار تعتبر غير قابلة للإصلاح عندما يكون الأفراد محلاً للانفصال عن أسرهم بشكل مؤقت أو محتمل الإستمرار ويعانون من أزمات نفسية، وعندما يحرم الطلبة من أداء اختباراتهم بسبب الغياب الإجباري أو يحرمون من متابعة دراستهم بسبب رفض المؤسسات الأكاديمية تزويدهم بشهاداتهم الدراسية، أو عندما يحرم الشخص المعني من المثول جسدياً أمام أي جهة أو المدافعة في مواجهة أي اجراء تمييزي. إلا أن المحكمة لم تعط ذات القيمة للحق بالملكية أو العلاج أو وقف بث الحملات الاعلامية وبث روح الكراهية، لأانها من وجهة نظر المحكمة لا ترتقي لكونها حقوق غير قابلة للتعويض أو الإصلاح.
وفي هذا السياق، حاولت دولة الإمارات العربية من خلال دفاعها أن تؤكد للمحكمة بأنه حتى لو ثبت أن هناك انتهاكاً لكل أو بعض الحقوق المشار إليها من قبل دولة قطر أمام المحكمة، فإن هذه الأضرار ليست غير قابلة للإصلاح. إلا أنه لا يبدو أن المحكمة أخذت بهذا الرأي.
(ج) اختصاص المحكمة بموضوع النزاع:
هناك علاقة مادية بين اختصاص المحكمة باصدار الاجراء التحفظي واختصاصها بموضوع النزاع. فاذا تأكدت المحكمة من عدم اختصاصها بموضوع النزاع فلا يجوز لها أن تتصدى لبحث الاجراءات التحفظية ومن باب أولى اصدارها. فالقاضي الدولي لا يملك حق التأشير بالاجراءات التحفظية في النزاع المطروح أمامه إلا إذا تأكد من اختصاصه بالنظر في موضوع النزاع (Competence au fond) وذلك لأن التأشير بالاجراءات التحفظية يشكل المرحلة السابقة للنظر في الدعوى، ولا يستطيع دراسة هذه المرحلة إلا المختص بنظر الموضوع الأصلي للنزاع.
ففي النزاع محل الدراسة، أكدت المحكمة على انضمام كل من قطر – 22 يوليو 1976 - ودولة الامارات – 20 يونيو 1974 - لاتفاقية حظر التمييز دون أية تحفظات. وتنص المادة 22 من الاتفاقية على أن "في حالة أي نزاع ينشأ بين دولتين أو أكثر من الدول الأطراف بشأن تفسير هذه الاتفاقية أو تطبيقها وتتعذر تسويته بالمفاوضة أو الإجراءات المنصوص عليها صراحة في هذه الاتفاقية، يحال هذا النزاع بناء علي طلب أي من أطرافه، إلي محكمة العدل الدولية للفصل فيه، ما لم يتفق المتنازعون علي طريقة أخري لتسويته."
كما توصلت المحكمة من عناصر الدعوى إلى أن هناك ما يكفي في هذه المرحلة للتقرير بوجود نزاع بين الأطراف يتعلق بتفسير أو تطبيق اتفاقية حظر التمييز.
وفي ضوء كل المعطيات السابقة توصلت المحكمة أنها مختصة وفقاً لنص المادة 22 من اتفاقية حظر التمييز لفحص النزاع طالما أنه بين الأطراف فيما يتعلق بتفسير وتطبيق اتفاقية حظر التمييز.
(د) عدم المساس بأصل الحق:
يقصد بهذا المساس أن يتم الفصل في أصل الحق في منطوق الأمر الصادر بالتأشير بالاجراءات التحفظية ، أو أن يلغى أو يعدل هذا الأمر المراكز القانونية الثابتة للخصوم . فعلى الرغم من الصلة الوثيقة بين الاجراءات التحفظية التي تقوم المحكمة بالتأشير عليها وموضوع النزاع، الا أن المحكمة يجب أن تتوخى الحذر بعدم الفصل أو المساس بأصل الحق موضوع النزاع .
فالاجراء التحفظي اجراء مؤقت يصدر ليحدد مراكز الخصوم تحديدا مؤقتا حتى يتم الفصل في موضوع النزاع بحكم قطعي نهائي، ومن ثم فهو لا يمس أصل الحق، مع التأكيد على أن الإجراءات التحفظية تهدف الى ضمان حقوق الأطراف لحين الفصل في الدعوى بقرار نهائي، ولهذا ينبغي أن تكون هذه الاجراءات على صلة وثيقة بموضوع النزاع وتدور معه وجودا وعدما .
ولكي يتم هذا الاجراء على أحسـن وجه، يتوجب اطلاع القاضي على مستندات الخصوم والنظر في أدلتهم المتعلقة بأصل الحق، فهو لا يفعل ذلك ليحسم النزاع المطروح أمامه، ولكن ليتوصل لمعرفة أي الطرفين أجدر بالحماية وأولى بالرعاية. مع ملاحظة أن ذلك لا يمنع أن يكون كلا الطرفين لهما الحق بهذه الحماية، ولا يشترط أن تصدر مثل هذه الاجراءات - فقط - لصالح أحد الطرفين دون الآخر، ولربما تأمر المحكمة بالتأشير باجراءات لم يشر إليها أو يطلبها أي من الخصوم. وفي هذا المقام اكتفت المحكمة بتلبة ثلاث فقط من أصل تسعة اجراءات تحفظية تقدمت بها دولة قطر للمحكمة.
وفي هذا المقام، فقد قصرت دولة قطر طلباتها على "1- وقف الإبعاد الجماعي ومنع دخول مواطني قطر إلى الإمارات بناء على جنسيتهم، 2- اتخاذ كافة الخطوات اللازمة لمنع الكراهية أو التمييز العنصري ضد مواطني قطر أو الأفراد المرتبطين بها بما في ذلك إدانة الخطاب الكراهي ضد دولة قطر ووقف أية منشورات أو رسوم كاريكاتيرية ضد قطر ومنع أية اشارات عنصرية أخرى ضد مواطني قطر، 3- وقف تنفيذ القانون الإتحادي رقم 5/2012 بشأن الجرائم الالكترونية الذي يعاقب على التعاطف مع قطر وأي قانون محلي آخر يرسخ بطبيعته التمييز ضد مواطني قطر، 4- اتخاذ الإجراءات اللازمة لضمان حرية التعبير للقطريين المتواجدين في دولة الإمارات، بما في ذلك وقف اغلاق ومنع البث من مؤسسات الإعلام القطرية، 5- وقف جميع الإجراءات التي تسببت بالفصل بين أفراد الأسرة الواحدة التي يكون أحد أو بعض أعضائها من مواطني قطر، وضمان لم شمل الأسر في دولة الإمارات إن كان ذلك هو اختيارهم، 6- وقف كافة الإجراءات التي تمنع بشكل مباشر أو غير مباشر تمتع القطريين بسبب جنسيتهم من الرعاية الصحية، واتخاذ اللازم لتوفير تلك الرعاية، 7- وقف كافة الإجراءات التي تمنع بشكل مباشر أو غير مباشر تمتع الطلبة القطريين بسبب جنسيتهم من تلقي التعليم أو التدريب في المؤسسات الإماراتية، واتخاذ اللازم لضمان حصول هؤلاء الطلبة على تقاريرهم، 8- وقف كافة الإجراءات التي تمنع بشكل مباشر أو غير مباشر القطريين بسبب جنسيتهم من الوصول إلى أو استخدام أو إدارة أو التمتع بممتلكاتهم المتواجدة في دولة الإمارات وضمان حقهم بعمل وكالات بالتصرف في الإمارات وحقهم بتجديد تراخيص التجارة والعمل والإيجار، 9- اتخاذ الخطوات اللازمة لضمان المساواة في المعاملة للقطريين أمام المحاكم والمؤسسات القضائية في الإمارات، بما في ذلك الطعن بأي اجراءات تمييزية."
وقد أكدت المحكمة في أمرها على أنها تؤكد بأن ما تتخذه من قرار في هذا المقام - التدابير التحفظية - لن يؤثر بأي شكل من الأشكال على اختصاص المحكمة في نظر الموضوع من حيث القبول أو عدمه، وتترك لأطراف النزاع (قطر والإمارات) حق تقديم ما يشاؤون من دفوع أمام محكمة الموضوع.
(2) الشروط الشكلية لاصدار الاجراءات التحفظي
لإصدار التدابير التحفظية من محكمة العدل الدولية، لا بد من صدور هذا الطلب من صاحب حق، وأن يكون تقديم الطلب قبل صدور أو وشوك صدور حكم المحكمة، وأن يقدم الطلب إلى الجهاز المختص، وأن تتوافر الشروط الموضوعية لإصدار الأمر.
1
) صدور طلب الاجراءات التحفظية من صاحب حق:
تعتبر دولة قطر هي الطـرف المتضرر في نزاعها ضد الإمارات، وبما أنها تخاف على حقوقها وحقوق مواطنيها من الضياع أو تفاقم الأوضاع، لذا ينطبق عليها نص المادة 73/1من لائحة محكمة العدل الدولية التي تنص على أن "كل طرف في النزاع يستطيع تقديم طلب كتابي بالتأشير بالاجراءات التحفظية في أي لحظة طالما اجراءات التقاضي في موضوع النزاع ما زالت مستمرة"، وبالتالي يكون لقطر الصفة في طلب التأشير بالتدابير التحفظية .
2
) وقت تقديم الطلب الخاص بالاجراءات التحفظية:
بما أن المحكمة جعلت تحديد الوقت والمناسبة لتقدير الدول المتقدمة بطلب التأشير بالتدابير التحفظية على ألا يتجاوز تاريخ صدور الحكم النهائي في الدعوى. فلا يوجد أي خلل من قبل دولة بخصوص هذا الشرط الشكلي، حيث تقدمت بطلبها بالتأشير بالتدابير التحفظية بالتزامن مع طلبها في الدعوى الموضوعية، مع العلم بأن الحكم في الدعوى الموضوعية لم يصدر بعد.
ونود التأكيد في هذا المقام، لو أن الدولة المعنية تأخرت في تقديم طلب التأشير في التدابير التحفظية إلى المحكمة، بحيث أصبحت المحكمة جاهزة للفصل في الموضوع، فإن المحكمة لن تصدر أمرا بالتأشير بالتدابير التحفظية، لأنها أضحت على وشك إصدار حكمها في الموضوع، وما دور هذه التدابير التحفظية إلا المحافظة على الحال كما هو لحين الفصل بالموضوع، وبما أن الفصل أصبح وشيكاً فلا مبرر لإصادر الأمر.
3
) أن يقدم الطلب الى الجهاز المختص باصدار الاجراءات التحفظية:
وفي النزاع محل الدراسة فان محكمة العدل الدولية هي الجهاز المختص بالتأشير بالاجراءات التحفظية وذلك حسبما ورد في نص المادة 41 من النظام الأساسي لمحكمة العدل الدولية .وكما أسلفنا في عاليه، أن ها الطلب إما أن يقدم في ذات الطلب الأصلي ووقت رفع الدعوى الموضوعية مع إرفاق الشق الستعجل، أو أن يقدم في وقت لاحق وبطلب مستقل عن الطلب الأصلي. وفي جميع الأحوال لا يغير من طبيعة الإجراءات وأسلوب المحكمة في نظر الطلب أن يقدم بالتبعية للطلب الأصلي أو بشكل مستقل.
رابعاً: الأهداف التي يسعى الأمر لتحقيقها:
لم يكن الهدف من الأمر بالتأشير بالإجراءات التحفظية تحديد انتهاك أحد طرفي النزاع (قطر والإمارات) لاتفاقية حظر كافة أشكال التمييز العنصري، وإنما الإقتصار فقط على التقرير ما إذا كانت الظروف تتطلب التأشير بالتدابير التحفظية لحماية الحقوق الواردة في الإتفاقية من عدمه. وفي هذا المقام، فإن الاجراءات التحفظية التي طلبتها قطر من المحكمة تهدف إلى غايات عدة، تتمثل في التالي:
1
) المحافظة على حقوق قطر ومواطنيها لحين الفصل في موضوع النزاع:
إن المحافظة على حقـوق الأطراف أثناء نظر النزاع ليعد من أهم الأهداف التي ترمي الاجراءات التحفظية الى تحقيقها . فالمطالبة بالحقوق أمام القضاء الدولي لا تؤتي أكلها عاجلا، فلا بد من مرور زمن طويل من يوم رفع الدعوى الى حين صدور الحكم.
لا شك أن من ضمن العيوب التي يوصم بها القضاء الدولي البطء في اجراءات الدعوى. وما سنت الاجراءات التحفظية في القانون الدولي الا لمعالجة هذا البطء الشديد في اصدار الأحكام.
2
) منع تفاقم النزاع:
تحتكم الدول الى القضاء الدولي لأنها ترى فيه الوسيلة المناسبة لفض هذا النزاع، لذا يفترض أن يكون من بين الأهداف التي تسعى اليها الاجراءات التحفظية المؤشر بها بواسطة القضاء الدولي منع تفاقم النزاع لمصلحة الطرفين، بتجنيبهما المزيد من التوتـر والتصعيد، بحيث يسهـل الفصـل في الـنزاع ووضـع نهـاية لـه .
وفي هذا المقام فقد أشارت المحكمة إلى أن طلب التدابير التحفظية القطري تضمن اجراءات تهدف لعدم تصعيد النزاع مع الإمارات، وإن كانت هذه الاجراءات تهدف لحماية حقوق معينة، فإن المحكمة يمكنها - عندما تستدعي الظروف - أن تحدد اجراءات تحفظية اخرى بهدف منع تدهور أو اتساع النزاع، كما فعلت في سوابق قضائية عديدة. والمحكمة تملك أن تستجيب لبعض الطلبات التحفظية للخصوم، وتتجاهل بعضها الآخر، وهو ما تم بالفعل في القضية محل النظر، حيث أقرت المحكمة من بين الطلبات القطرية السبع فقط ثلاثاً منها، وهي ما تتعلق بالطلبة الدارسين في دولة الإمارات والأسر التي تسببت المقاطعة بالفصل بينها، وأخيراً حق المواطنين القطريين في طرق أبواب التقاضي أمام المحاكم في دولة الإمارات العربية. وبالتالي رفضت المحكمة طلبات دولة قطر بالتأشير بالتدابير التحفظية المتعلقة بـ"حماية الممتلكات الخاصة بالقطريين، وحق العلاج، ووقف الحملات الإعلامية وبث روح الكراهية ضد قطر والقطريين"، لأن المحكمة قدرت بأنها لا تشكل خطراً حالاً ويمكن الإنتظار للفصل بشأنها أمام محكمة الموضوع. وفي قضية مماثلة وذات شأن في نفس الموضوع، رفضت المحكمة كامل الطلبات التي تقدمت بها دولة الإمارات للمحكمة في حكمها الصادر بتاريخ 14 يونيو 2019، حيث اكتفت المحكمة بالنص الوارد في أمرها التحفظي السابق - بالنسبة لها ومحل الدراسة في هذا البحث – والذي جاء به "التزام طرفي النزاع بالابتعاد عن أي تصرف من شأنه أن يزيد الوضع خطورة أو يطيل أمد النزاع أو يجعل من حله أكثر صعوبة."
3
) ضمان تنفيذ الحكم النهائي الصادر من المحكمة:
الغاية النهائية من طرح أي نزاع على القضاء الدولي هو الحصول على حكم قابل للنفاذ، واذا استحال الأمر فإن التسوية القضائية تفقد غايتها. وفي أمرها أعادت المحكمة التأكيد على أطراف النزاع بأن الأوامر التحفظية تتسم بالإلزام، وذلك وفقاُ لنص المادة 41 من النظام الأساسي لمحكمة العدل الدولية، ويجب التعاطي معها، وتنفيذ ما ورد فيها من تدابير تحفظية.
وهنا أصدرت المحكمة أمرها بأغلبية (11) صوتاً "بامتناع طرفي النزاع عن القيام بأي تصرف من شأنه أن يزيد الوضع خطورة أو يوسع النزاع المعروض على المحكمة أو يجعل تسويته أكثر صعوبة."
وعلى الرغم من أن هذا الأمر الذي أمسك العصا من المنتصف، فلم يقسُ على دولة الإمارات، ولم يلبِ كل ما طلبته دولة قطر، لكن الأروع في نتيجة هذا الأمر هو أنه نجح في نزع فتيل الأزمة بين البلدين، وحال دون تفاقمها، خاصة وأن دولة الإمارات قد تجاوبت مع ما توصل له الأمر، وفتحت الباب لممارسة القطريين لحق التقاضي أمام المحاكم الإماراتية وأعادت لم شمل الأسر التي فرقتها المقاطعة، وسمحت للطلبة القطريين بالحصول على شهاداتهم الدراسية، وذلك لحين الفصل النهائي بالنزاع الموضوعي المنظور أمام محكمة العدل الدولية.
ويبدو أن الأمور أضحت أقرب إلى الحل، بين دول المقاطعة ودولة قطر، منها إلى التأزيم، حيث وجهت المملكة العربية السعودية الدعوة ولأول مرة لدولة قطر للمشاركة في القمم الثلاث (الخليجية والعربية والاسلامية) التي انعقدت في جدة (المملكة العربية السعودية) إبان عام 2019.
الخاتمة
إن المنازعات الدولية محتملة الوقوع في المجتمع الدولي، لكن مواجهتها والقضاء عليها بالوسائل السلمية هي مسألة غاية في الأهمية. ومن وسائل التسوية السلمية للمنازعات الدولية محكمة العدل الدولية، إلا أن هذه الوسيلة وعلى الرغم من نجاعتها، قد تستمر سنوات قبل حسمها للنزاع بحكم قضائي نهائي، ومن ذلك النزاع القطري الإماراتيي ما زال معروض أمام محكمة العدل الدولية ولم يتم الفصل فيه حتى الساعة. ومن هنا جاءت أهمية الأوامر التحفظية، حيث تستطيع المحكمة وبشكل عاجل اصدار أمرها بالتأشير بالتدابير التحفظية، بناء على طلب احد أطراف النزاع أو كليهما أو بناء على مبادرة من المحكمة نفسها، لحين الحكم في موضوع النزاع، بهدف ضمان عدم تدهور الأوضاع بين طرفي النزاع وذلك دون المساس بأصل الحق.
وبالفعل فقد استفادت دولة قطر والإمارات من سلوك هذا الطريق، حيث أن المقاطعة السياسية والدبلوماسية والإقتصادية التي أعلنتها كل من مصر والسعودية والبحرين وانضمت لهم دولة الإمارات العربية ضد قطر، كان لها آثارها الإنسانية على مواطني قطر، خاصة المتواجدين في أو المتعاملين مع دولة الإمارات أو لهم علاقات أسرية مع أقرانهم من من الإماراتيين. وكان بعض هذه الآثار تشكل مساساً بالحقوق التي نصت اتفاقية حظر كافة أشكال التمييز على حمايتها، والتي يعتبر طرفي النزاع من الأعضاء المصدقين عليها، مما يفتح باب اللجوء لأيهما إلى المحكمة لحماية هذه الحقوق.
وبالفعل فقد أشرت المحكمة بثلاث تدابير من أصل سبعة تقدمت دولة قطر بطلبها من المحكمة، ورحبت الامارات بهذا الأمر ونفذته دون مجادلة أو معارضة أو مماحكة، مما عاد بالأثر الإيجابي على الأسر في كلا البلدين وعلى الطلبة القطريين والمواطنين القطريين الراغبين بطرق أبواب المحاكم القطرية.
والأهم من ذلك، التأكيد في الحكم على امتناع كلا الطرفين عن اتخاذ أية اجراءات من شأنها زيادة الوضع سوءاً أو التغيير في المراكز القانونية، مما يبث روحاً من الإطمئنان والسكينة بين سكان المنطقة بشأن زوال خطر الإقتحام العسكري الذي أثير أكثر من مرة. والعيون كلها تتجه نحو حكم المحكمة المزمع أن ينزع فتيل الأزمة بين البلدين وبشكل نهائي، قبل يتم نزعها بطريق ودي آخر قبل صدور الحكم.
والجميل أن طرفي النزاع آمنا بأهمية سلوك الطريق القانوني لتسوية النزاع بينهما، حيث تقدمت دولة افمارات بطلب لعدد من الإجراءات الاحترازية لمحكمة العدل الدولية، إلا أن مصيرها كان الرفض بقرار المحكمة المؤرخ في 14 يونيو 2019، وذلك لإكتفاء المحكمة بما تضمنه الحكم محل الدراسة.
ولا يشكل صدور هذه الأمر بالتأشير بالإجراءات الإحترازية أي مؤشر بضرورة صدور الحكم لصالح دولة قطر في النزاع الموضوعي، فللمحكمة أن تحكم لصالح دولة الإمارات العربية على الرغم من استجابتها لبعض طلبات دولة قطر بشأن التدابير الاحترازية.
إلا أنه لا خلاف بأن دولة الامارات استعجلت في تصريحاتها واجراءاتها الانتقتامية في مواجهة مواطني دولة قطر المتواجدين على أراضيها إثر الأزمة الدبلوماسية التي اندلعت بين البلدين، بينما اتسم الموقف القطري بالحلمـ الذي كان له أبلغ الأثر في قلب الموازين لصالح قطر على حساب دولة الإمارات، خاصة وأن ضحايا انتهاكات حقوق الإنسان كانوا في الجانب القطري أكثر منهم في الجانب الإماراتي. واليوم أضحت الأمور تقاس بضرورة انصاف الجانب الذي يقع الضحايا في صفه على حساب الجانب الآخر، وهو ما يعطي مؤشرا لما قد يبدو عليه الحكم في موضوع النزاع القطري الإماراتي.
وعلى الرغم من ذلك فإن جميع المؤشرات تؤكد على أن النزاع الإماراتي القطري سيتم حسمه خارج أروقة المحكمة، وسيتم سحبه بعد تمام التسوية وبموافقة ورضا طرفي النزاع، وهو ما يتمناه كل أطراف النزاع والمواطنون في البلدين ودول المنطقة كافة.