بدأت دراسة الحالة

دور قواعد الأخلاق في خلق مسئولية أخلاقية تساهم في الحد من استخدام الألغام

© د ندى يوسف الدعيج Dr Nada Y Al-Duaij د عيسى حميد العنزي Dr Eisa H. Al-Enezy

ملخص البحث

لقد انتشر استخدام الألغام في النزاعات المسلحة، وقد كان الضحية الأساسية لهذه التقنية العسكرية الأشخاص المحميين من أطفال ونساء ومدنيين، غير ما تتعرض له البيئة الطبيعية من دمار جراء هذا الإستخدام. وقد توالت مجهودات القانون الدولي في الحد من استخدام هذه الألغام، فحظرتها الإتفاقيات الدولية، ونبذتها الأعراف الدولية، واصطدم استخدامها مع مبادئ القانون الدولي الإنساني، وكان للأحكام الدولية دور في تقييد استخداها. إلا أن ذلك لم يحول دون استمرار بعض الدول من الإستمرار في هذا الإستخدام، فما كان من إثارة المسئولية الدولية بد في حق هذه الدول لتردع هذه التجاوزات وتجهض هذه المخالفات، ولكن الأمر لم يفلح تماماً في القضاء على استخدام الألغام الأرضية، فجاءت فكرة تعزيز المسئولية الأخلاقية لتكون ظهيراً لسد الفراغ الناجم عن ضعف نظام المسئولية الدولية التقليدية. والمسئولية الأخلاقية تختلف نوعاً وطبيعة ونتيجة عن المسئولية القانونية التقليدية، فهي مسئولية يحركها الضمير العام والشعور بالإنسانية وترتكز أساساً على قواعد الأخلاق التي تفتقر إلى الجزاء وترتكن إلى الإستنكار والاستهجان ونبذ مرتكبي هذه الممارسات اللاأخلاقية، وتظهر في امتعاض السلطات والأفراد وإدانتهم لأصحاب القرار والضغط عليهم للعدول عن هذه الممارسات، والتي تلعب أحياناً دوراً يفوق في أثره ما تلعبه المسئولية القانونية التقليدية.

المقدمة

لقد أصبح استخدام التقنيات العسكرية التي تخفف من الالتحام القتالي بالعدو أمر واسع الانتشار، وكثيرة الاستعمال من قبل معظم جيوش العالم، ومن أسوأ تلك التقنيات المستخدمة أثناء النزاع الأسلحة العمياء أو الأسلحة غير التقليدية، والطائرات من دون طيار، والصواريخ العابرة للقارات والألغام بأنواعها والقنابل العنقودية والأسلحة الكيمائية والنووية وأمثالها. وتشترك هذه الأسلحة في أنها لا تميز في إصابة الأهداف العسكرية بين المدني والعسكري، وبين العسكري الذي ما زال يقاتل والعسكري الذي فقد القدرة على القتال، وكان هذا السبب وراء حظرها واعداد الإتفاقيات الدولية العامة والخاصة للحد من استخدامها. وبما أن الألغام تعد أكثر هذه التقنيات انتشاراً، وأيسرها حصولاً، فإنها ستكون محلاً لهذه الدراسة. فقد تم استخدام الألغام في كل أنواع النزاعات الدولية والأهلية، وحتى في التوترات الداخلية. وتعتبر الأضرار التي تتسبب فيها الألغام الأرضية كبيرة وفادحة، وتستهدف كل عناصر الحياة الحية وغير الحية. وتصنف الألغام بأنواعها على أنها من الأسلحة الدفاعية، وليست الهجومية، والتي تسعى القوات المسلحة من خلال استخدامها إلى إعاقة تقدم العدو وتعطيله عن تحقيق أهدافه وإلحاق أكبر عدد من الخسائر به. ولولا خطر هذه التقنية العسكرية على السكان المدنيين، والحاقها بالغ الضرر بكل من الإنسان والبيئة الطبيعية، لما تدخل المجتمع الدولي لمحاولة تقنين استخدامها، والحد منها، وصولاً إلى حظرها حظراً كلياً. وللأسف فما زالت الألغام تجارة رائجة في سوق السلاح العالمي، ولا يُسئل عن استخدام هذه الألغام، وما تتسبب به من أضرار، من يقوم بزراعتها فحسب، بل يجب مسائلة من سمح بدخولها واستخدامها، وقبل ذلك من قام بتصنيعها والإتجار بها. الأمر الذي يستوجب الابتعاد عن فلك المسئولية القانونية التقليدية التي عجزت عبر عقود من الزمن في منع استخدامها. وأمام هذا العجز الذي أبدته وما زالت تبديه نصوص الإتفاقيات الدولية، وعجزت كذلك الأعراف الدولية عن منع مثل هذه الأعمال المادية وبشكل كامل. وما زالت العديد من الدول ترفض الإلتحاق بركب المنظومة العالمية للحد من ومنع استخدام الألغام الأرضية. كما أن دول أخرى تتحايل على نصوص القانون بحيث تستمر في استخدام الألغام بشكل يعفيها من المسئولية، سواء باستخدامها في مناطق لا تخضع لسيادتها، أو استخدامها من خلال آخرين من خلال الحرب بالوكالة، وذلك دون إغفال حق الدول بالتحفظ على المعاهدات الدولية المنظمة لإستخدام الألغام وحقها بالإنسحاب منها عندما تشاء. فلم يكن هناك مفر من استثارة قواعد الأخلاق والمسئولية الأخلاقية لتكون بديلاً يلعب الدور أمام العجز الذي تعاني منه قواعد القانون والعرف، بسبب تصرفات الدول عن عمد أو دون عمد. وعلى الرغم من أن عدداً محدوداً من الدراسات تطرقت للمسئولية الأخلاقية عن استخدام الألغام، فإننا سنولي لها حقها في هذه الدراسة. بناء عليه سينقسم هذا البحث إلى مبحثين وفق التقسيم التالي: المبحث الأول: الأسباب الأخلاقية وراء حظر الألغام وإثارة المسئولية المترتبة على استخدامها المبحث الثاني: عناصر المسئولية الأخلاقية والآثار المترتبة على استخدامها الخاتمة الكلمات المستخدمة (قانون – دولي – ألغام – اتفاقية – مسئولية – أخلاق) Keywords (Law, International, Mines, Treaty, Responsibility, Moral)

المبحث الأول: الأسباب الأخلاقية وراء حظر الألغام وإثارة المسئولية المترتبة على استخدامها

الأسباب وراء حظر استخدام الألغام عديدة، منها القانوني والاقتصادي والاجتماعي، ومنها كذلك الأخلاقي، وهذه الأخيرة هي محل البحث في المطلب الأول من هذا المبحث. ويترتب على استخدام الألغام المسئولية المدنية والجنائية والإدارية وفقاً للقانون الداخلي، أما على المستوى الدولي فإن المسئولية التقليدية التي تترتب على الحاق الضرر جراء استخدام الألغام (المطلقة والمقيدة) هي الدارجة، إلا أننا في المطلب الثاني من هذا المبحث سنحاول تأطير مسئولية جديدة، تحت مظلة القواعد الأخلاقية في القانون الدولي. وعليه سيتم تقسيم هذا المبحث إلى مطلبين، نتناول في الأول منهما الأسباب الأخلاقية وراء حظر واستخدام الألغام، ونتناول في الثاني الأسباب وراء استثارة المسئولية الأخلاقية المترتبة عن استخدامها.

المطلب الأول: الأسباب الأخلاقية وراء حظر استخدام الألغام

يمكن تقسيم الأسباب الأخلاقية وراء حظر استخدام الألغام إلى مجموعتين من الأسباب، الأولى تتعلق بالسلاح ذات نفسه، والثانية تتعلق بالضحايا الذين يستهدفهم هذا السلاح. وعليه سينقسم هذا المطلب إلى فرعين، الفرع الأول يستعرض الأسباب الأخلاقية المتعلقة بحظر الألغام كإحدى التقنيات العسكرية، أما الفرع الثاني فيتعلق بالأسباب الأخلاقية لحظر استخدام الألغام اعتباراً لطبيعة الضحايا. الفرع الأول: الأسباب الأخلاقية المتعلقة بحظر الألغام كتقنية من التقنيات العسكرية: يعرف اللغم بأنه أداة أو جهاز يحتوى على شحنة ناسفة تنفجر بمجرد مرور جسم عليها أو بالقرب منها، ويوضع بطريقة مستترة يصعب ملاحظة وجوده معها. فالألغام هي تقنيات عسكرية وجدت فقط من أجل القتل، والإتلاف والحد من قدرات القوات المعادية. وهو ما يُخرج النزاع المسلح من معناه التقليدي والذي يقوم على أساس التلاحم بين القوات المسلحة للطرفين. وتتمثل مشكلة الألغام تتمثل في قلة تكلفتها المادية وتوافرها في سوق الأسلحة وعِظم وفداحة الخسائر البشرية التي تلحقها بالضحايا والتي تبدأ مع اندلاع النزاع المسلح وتستمر لما بعد انتهائه. ويترتب على استخدامها ما لا يقل عن 2000 ضحياً شهرياً، يسقط بينهم ما لا يقل عن 900 حالة وفاة. ولا يمكن للضرر الجسدي أن يلحق ضحايا الألغام الأرضية بمنئى عن الأضرار النفسية، حيث أن نفسية ضحايا هذه الألغام، هم وذويهم، تتأثر سلباً جراء هذه الإصابات وبشكل يصعب معه معالجتها، إلا بمرور فترات زمنية طويلة. وعلى الدول أن تفكر مراراً وتكراراً قبل استخدام الألغام، لأنها سلاح بطبيعته غير قابل للتحكم به، فبمجرد زراعتها تفقد الدولة قدرتها في التحكم بها، فهي تنفجر بمجرد الإقتراب منها أو الضغط عليها، بغض النظر عمن مر بالقرب منها أو ضغط عليها، الأمر الذي يجعلها سلاحاً يتعارض ومبادئ الأخلاق. وعلى الرغم من أن زراعة الألغام أحيانا لا تكلف أطراف النزاع شيئا أو وقتاً، إلا أن نزع هذه الألغام وتسوية آثارها قد يكلف أطراف النزاع مبالغ طائلة ويستمر فترات زمنية طوال، خاصة إذا ما غاب تعاون الطرف زارع الألغام ولم يقدم خريطة ما زرعه منها للخصم، مما يجعل مهمة نزعها عسيرة وأحياناً مستحيلة. فعلى سبيل المثال، إزالة الألغام الأرضية، ضد الأشخاص والدبابات، التي زرعتها القوات العراقية أثناء الاحتلال، كلفت حكومة دولة الكويت مائة مليون دولار لكل منها. والأسعار التجارية لنزع الألغام عن منطقة كيلومتر مربع واحد على سبيل المثال تكلف الدولة مبالغ في حدود 961,538 دولار أمريكي للكيلومتر مربع، أو بتكلفة 3000 دولار أمريكي للدقيقة الواحدة. وليس بالضرورة أن تستطيع كل دول العالم تحمل هذه الكلفة الباهضة، فتركن الدول على منع سكانها من الإقتراب من هذه المناطق على أن تقوم بدفع هذه الكلفة الباهظة لنزع الألغام. وتقلب الألغام قواعد النزاعات المسلحة رأساً على عقب، فتخل بمبدأ المواجهة بين الجيوش المتحاربة، فيتم تلغيم المناطق التي يحتمل وصول العدو من خلالها وذلك للحد من قدرات القوات المعادية وإلحاق أبلغ أذى بها حتى قبل أن يبدأ الإلتحام وتبدأ النزاعات المسلحة. الأمر الذي يستوجب فعلاً الحد من استخدام الألغام في النزاعات المسلحة إلا في أضيق الحدود، كاللجوء لها فقط من أجل تأخير اكتمال الإعتداء أو الإحتلال تمهيداً لضمان الأرضية للتدخل الدولي كاتخاذ مجلس الأمن أو حلف الناتو أو غيرها من المنظمات الدولية المعنية قرارها بهذا الخصوص، مع ضرورة الإحتفاظ بنسخة من خريطة لمواقع الألغام وأعدادها وتسليمها للمنظمة المعنية. كما أنها تخل بمبدأ إعلان الحرب، حيث يتم زرع الألغام في المناطق الحدودية عادة، أو في المناطق التي تتمترس بها قوات العدو لمحاصرتها ومنعها من التحرك، وذلك في وقت سابق على بدء العمليات العسكرية، مما قد يتسبب في سقوط الضحايا بين أفراد القوات المسلحة المعادية قبل وقت من نشوب العمليات القتالية، مما يترتب عليه سقوط الضحايا ومن ثم إعلان الحرب. وبالتالي لا بد من مراجعة قواعد القانون الدولي الإتفاقية والعرفية تمهيداً لمنع الدول من زراعة الألغام قبل إعلان الحرب. وفي ظل هذا العجز على مواجهة التوسع في استخدام الألغام فلا مناص من الاعتماد على فكرة المسئولية لأخلاقية والعمل على تطويرها لضمان فاعليتها. ولا يجوز التحجج بمبدأ سيادة الدول على أقاليمها، حيث أن هذه السيادة أمر مقدس طالما كانت علاقات الدولة تقوم مع دول الجار على أساس حسن الجوار، أما وأن العلاقات بين الدولة وجارتها أو جيرانها في توتر، فإن ذلك لا يبيح لها زراعة الألغام لأنها بالتأكيد تزرعها بغرض استهداف القوات المعادية قبل بدء الإشتباك وإعلان الحرب. أما إذا رافق إعلان الحرب زراعة الألغام، فإن مثل هذا التزامن من شأنه أن يلعب دوراً في إعادة الأطراف لحساباتها، وربما إعادة النظر في الدخول في هذه الحرب الخاسرة مقدماً. إن مشكلة هذه التقنية العسكرية أنها لا تميز بين الضحايا، فهي سلاح أعمى من شأنه أن يلحق الضرر بالكافة ودون تمييز، مقاتلين أو مدنيين، من البشر أو من البيئة الطبيعية بكامل مكوناتها (الكائنات الطبيعية والحيوانية وبيئتها المحيطة). وطبيعة الألغام أنها تزرع بشكل خفي يصعب على العدو اكتشاف وجودها، وبالتالي يمكنها أن تظل مخفية في أماكنها بعد انقضاء النزاع واستمرار أخطارها لعقود، وذلك حتى بعد الدخول في معاهدات سلام بين أطراف النزاع، مما قد يعيد توتر العلاقات بينهما جراء مثل هذه الخسائر المستمرة في الأرواح والممتلكات. ويزداد مثل هذا التهديد حين يقوم بزراعة الألغام نظام سياسي ما، ويسقط هذا النظام برموزه، سواء بالموت أو بالتنحية أو الهروب، بحيث تظل مفاتيح خريطة هذه الألغام في حوزته أو أنه تتلف أو تفقد مع تلف وفقدان باقي وثائق هذه الأنظمة. ونحن من مؤيدين انشاء منظمات أو أجهزة عسكرية محايدة، تودع لديها خرائط وأعداد الألغام لدى كل دولة من الدول، ولا يتم تسليمها للدول المتضررة إلا بموجب قرار من مجلس الأمن الدولي أو من النظام الحاكم الجديد، وذلك تحت طائل المسئولية القانونية (الدولية الجنائية) لكل من مصانع الألغام ومورديها من الدول وكذلك الأنظمة التي تقوم بزرعها، وذلك حتى نصل إلى عالم خالٍ من الألغام. وفي جميع الأحوال، لا بد أن تكون القوات المسلحة الزارعة للألغام من الذكاء والحنكة بحيث تنشر الوعي والحذر لدى الكافة من المدنيين والدول المحايدة والمنظمات الإغاثية بشأن مواقع الألغام، على أن تكون هذه المعلومات المنشورة تشمل مواقع أوسع وأكبر من المناطق الحقيقية الملغمة، حتى تجعل مهمة العدو في العثور على هذه الألغام غاية في الصعوبة من ناحية، وتوسع التحذير بشأن المناطق الخطرة ليشمل مناطق واسعة جداً، على أن يكون من ضمنها المناطق الملغمة فعلياً، حماية لغير المقاتلين من حسني النية من الوقوع صحية لهذه الألغام. ولا يجب أن يستمر هذا التحذير لفترات زمنية طويلة حتى لا تتأثر المناطق المهجورة ولا تتأثر حياة المدنيين اليومية كنتيجة طبيعية لهذه التحذيرات. أما أن تزرع الألغام، وتترك المناطق الملغمة دون تحذيرات بهدف اصطياد القوات المعادية ومفاجأتها، فهو أمر مرفوض، ولا يتوائم مع الأخلاق السائدة في المجتمع الدولي.

الفرع الثاني: الأسباب الأخلاقية لحظر الألغام اعتباراً لطبيعة الضحايا:

ومن أكثر الأمور المحزنة في استخدام الألغام هو وقوع غير المقاتلين من الأفراد ومكونات البيئة الطبيعية ضحية لها، أما المستهدفين بها أصلا من القوات المسلحة المعادية عادة ما تتوافر لديهم التكنولوجيا المضادة لهذه الألغام، والتي تكفل غالباً إبطال الغاية الرئيسية من زرعها. فنجد القوات المعادية عادة ما تقوم بتمشيط مسار قواتها المسلحة في كل المناطق الشبوهة بزراعة الألغام، كاستخدام السلاسل الحديدية بقذفها لمسافة عشرات الأمتار أمام مسار القوات المسلحة، واستخدام المدرعات المضادة للألغام، بل واستخدام الأقمار الصناعية والأجهزة الكهرومغناطيسية لإكتشاف الألغام وأماكنها بالتحديد، بينما لا يملك سواهم هذه التكنولوجيا. والمؤسف أن ضحايا الألغام هم المدنيين، وغالباً من الأطفال الذين يعبثون بدافع الفضول في كل ما يقع تحت أيديهم، وإن كانت ألغاماً، وكذلك النساء وكبار السن. ولا يجي أن نغفل عن البيئة الطبيعية بمكوناتها من النبات البرية والبحرية والشعب المرجانية والحيوانات (البرية والبحرية). ويعتبر الإنسان الأكثر تأثرا بهذه التقنية العسكرية. ويأتي تأثر الإنسان بتغير سلوكه الاجتماعي نتيجة لانتشار الألغام، فعلى سبيل المثال، يمكنه أن يترك نشاط رعي الماشية أو الزراعة في المناطق محل زراعة الألغام، ويتجه نحو السفر إلى الخارج لممارسة أعمال وظيفية أقل ارتباطاً بالبيئة الطبيعية، مما يؤثر سلبا في نمو الثروة الحيوانية والنباتية. لا شك أن استخدام الألغام - عبر النزاعات المسلحة وما بعدها – تتسبب بسقوط عدد هائل من غير المقاتلين (المدنيين وسواهم)، وتدمير البيئة الطبيعية، وهجرة المزارعين لحقولهم الزراعية المليئة بالألغام مما أحالها من مناطق عامرة إلى مناطق قاحلة، وتجويع السكان المدنيين بحيث تحول هذه الألغام دون جني المحاصيل الزراعية لسد حاجات السكان الأساسية، الأمر كان وراء المجهودات الدولية الساعية للحد من استخدامها وصولاً إلى حظرها حظرا تاماً، إلا أنها جهود كان حليفها الفشل. ويلحق استخدام الألغام الأرضية الأضرار بكافة مكونات البيئة الطبيعية، فتتضرر البيئة اليابسة عند زراعة الألغام وخلال بقائها وعند انفجارها وحتى بسبب إزالتها حيث يتم تجريفها في كل هذه المراحل. ففي صناعة الألغام يتم استخدام مواد متفجرة وأحياناً شديدة الانفجار (TNT)، ومن شأن تحلل هذه المواد في التربة، إثر الانفجار أو بسبب فساد اللغم أو طول بقائه مطموراً، أن يؤثر سلباً في التكوين الطبيعي للتربة، ويحيلها من حال صلاحية للاستعمال إلى حال عدم الصلاحية ولربما السمية (التي تتسبب بتسميم التربة). وكذلك تلحق الألغام الأرضية الضرر بالتربة بسبب انفجارها وما يترتب عليها من انتشار للشظايا وتدمير النباتات المحيطة وتطاير الأجزاء المجاورة من التربة وتسبب الانفجار في تعرية الأرض وتجويفها أحيانا، مما يجعل التربة غير متماسكة وسهلة التجريف مع أقل ريح الأمر الذي يحول دون استزراعها، وهجرة الأيدي العاملة منها لخطورتها على حياتهم، خاصة إذا لم يثبت لهم نظافة الأرض تماماً من الألغام. وبالفعل فقد تأثرت، وما زالت، كثير من المناطق بالألغام البرية التي زرعها الجيش العراقي أثناء احتلال دولة الكويت 1990-1991، فكانت العلامات الإرشادية "انتبه منطقة ألغام" منتشرة في أنحاء الكويت، وكانت حائلا دون الاستمتاع بهذه المناطق في إقامة المخيمات أو استزراعها أو حتى رعي الماشية بها. وهو يكاد أن يكون مشابها للوضع الذي رزحت تحته مقاطعة Quang الفيتنامية والتي تأثرت فيها المنتجات الزراعية منخفضة بنسبة 50% نتيجة للألغام التي نشرها الجيش الأمريكي أثناء فترة الاحتلال. كما أن الألغام تلعب دورا في الإضرار بالبيئة المائية، حيث أن وجود الألغام يمنع الأفراد من الوصول إلى مصادر مياه الشرب، خاصة من الآبار والأنهار والبحيرات. كما تتسبب عملية زرع الألغام وإعادة نزعها بسهولة تبخر المياه في التربة، مما يعرضها لسرعة الجفاف. ولا شك أن موت الحيوانات وتلف النباتات جراء انفجار الألغام الأرضية من شأنه أن يلوث هذه المياه في بعض الأحوال ويحيلها غير صالحة للشرب أو الاستخدام الآدمي. ولا يجب أن نغفل تأثيرها على الشعاب المرجانية التي تتكون بشكلها الحالي عبر عمليات استمرت مئات السنين، ويستحيل إعادتها لحالتها إذا ما تعرضت للإنفجار بسبب أحد الألغام أو بسبب السموم التي تتسرب إليها من محتويات اللغم بعد الإنفجار. وغالباً ما تحب بعض المخلوقات البحرية - كالدلافين والحيتان - العبث بكل ما هو غريب عليها من أجسام، مما يسبب بانفجار اللغم وبالتالي موت هذه المخلوقات. والبيئة الهوائية كذلك ليست بمنئى عن الأضرار التي تتسبب بها الألغام الأرضية، خاصة إذا ما كانت هذه الألغام تحتوي غازات سامة أو ملوثة، وبالتالي فإن الضرر غير المباشر الذي يلحق الهواء ليس نتيجة لانفجار اللغم الأرضي، وإنما نتيجة لانتشار الغازات السامة أو الكيماوية الملوثة في الهواء. وما يجعل الأمر بشأن ضحايا الألغام أكثر ارتباطاً بالأخلاق عنه بالقانون هو طبيعة ضحايا الألغام. فكما أسلفنا أن غالبية الضحايا هم من الأطفال الذين يلجؤون بدافع الفضول وحب الإستكشاف للعب بما يعثرون عليه من أجسام غريبة، وإن كانت ألغاماً قد تودي بحياتهم، وهو الأمر لم يكونوا يتوقعونه البته، فتنقلب ساعة اللعب إلى كارثة تتسبب بالوفاة أو الإعاقة التي ترافقه طيلة حياته. أو أن تكون الضحية من النساء أو الرجال الذين يقومون بالإحتطاب أو صيد الأسماك أو الرعي، فبدلاً من أن يقوموا بكسب عيشهم يقوموا بإنهاء حياتهم، أو العيش مع إعاقة دائمة تحول دون قدرتهم على الإستمرار في إعالة ذويهم، وإحالتهم إلى من يحتاج الرعاية. وربما يكون الضحية من المخلوقات الطبيعية، سواء الحيوانات البرية أثناء رعيها بحثاً عن العشب، أو اقترابها بدون قصد بجوار حقول الألغام، أو المخلوقات البحرية أثناء مرورها بجوار الألغام ولمسها عن غير قصد أو نتيجة عبثها بها، أو سقوط الألغام لأي سبب من الأسباب فوق الشعاب المرجانية وانفجارها بها. وذلك كله غير تأثر البيئة المحيطة بهذه الألغام بسبب زرع الألغام أو بسبب انفجارها. وبما أن البيئة الطبيعية لا يمكنها أن تدافع عن نفسها في مواجهة الألغام التي تزرعها الجيوش، ولا تستطيع الحذر بتجنبها، ولا تملك الحق باختيار رفض احتضان هذه الألغام، أو تملك الوسيلة أو القدرة لمسائلة ومقاضاة من تعدى عليها، وبالتالي إن لم توفر الإتفاقيات والأعراف الحماية الكافية للبيئة الطبيعية، يتوجب على كل فرد من أفراد المجتمع يعيش في إطار هذه البيئة الطبيعية أن ينصب نفسه للدفاع عنها، وهنا ليس بالضرورة الإستناد للقواعد القانونية الإتفاقية أو العرفية، بل يتم الركون للقواعد الأخلاقية وما يترتب على انتهاكها من مسئولية أخلاقية. وأمام هذا الزخم الهائل والمتنوع من الأضرار على الإنسان والبيئة، لا بد من التركيز على الأسانيد القانونية لحظر استخدام الألغام الأرضية لتحديد مدى فاعليتها، وأنجع السبل للنهوض بها نحو المثالية.

المطلب الثاني: الأسباب وراء استثارة المسئولية الأخلاقية لحظر الألغام في ظل شبكة من القوانين الدولية

إن أهم أسباب اللجوء للمسئولية الأخلاقية، والإعراض عن المسئولية القانونية التقليدية في القانون الدولي هو عجز أو شلل المسئولية الدولية في الحد من الآثار السلبية لإستخدام الألغام. ويعود هذا العجز للأسباب التالية: الفرع الأول: عدم القدرة على إلزام الدول بالانضمام للإتفاقيات الملزمة المتعلقة بالألغام: إن أهم مبادئ القانون الدولي هو عدم القدرة على إلزام أية دولة بالإنضمام لإتفاقية دولية ما لم تبدِ هي رغبة حقيقية في هذا الإنضمام، وإلا عُد الأمر تعدياً على سيادة الدولة وسلطان الإرادة وتدخلاً في شأن من شؤونها الداخلية، وهو مشروع من وجهة نظر القانون الدولي، ولا يترتب عليه قيام المسئولية الدولية للدولة. ومن ذلك على سبيل المثال تصديق 164 دولة من دول العالم فقط على اتفاقية حظر استخدام وتخزين وإنتاج ونقل الألغام المضادة للأفراد وتدمير تلك الأسلحة لعام 1997، مما يجعل ما لا يقل عن 35 دولة خارج نطاق هذا الإلتزام. وتصديق عدد 106 دول فقط على البروتوكول الثاني بشأن حظر أو تقييد استخدام الألغام والشراك الخداعية والنبائط الأخرى الملحق باتفاقية حظر أو تقييد استخدام أسلحة تقليدية معيّنة يمكن اعتبارها مفرطة الضرر أو عشوائية الأثر لعام 1980، مما يعني غياب ما لا يقل عن 90 دولة عن الإلتزام بفحوى هذا البروتوكول.

الفرع الثاني: سماح معظم الإتفاقيات الدولية الناظمة لإستخدام الألغام للدول الأطراف بالتحفظ والانسحاب منها متى شاءت:

إن سماح بعض الإتفاقيات الدولية المتعلقة باستخدام الألغام للدول الأطراف بالانسحاب والتحفظ على بعض بنودها من شأنه أن يُفقِد أو يُضعِف الغاية من توقيع تلك الاتفاقيات. ومن تلك الإتفاقيات على سبيل المثال:
أولاً: اتفاقية حظر أو تقييد استخدام أسلحة تقليدية معيّنة يمكن اعتبارها مفرطة الضرر أو عشوائية الأثر لعام 1980:
على الرغم من أهمية هذه الإتفاقية في حظر استعمال الألغام الأرضية حيث نصت في المادة 3 فقرة 8 على أن "يحظر الإستعمال العشوائي للأسلحة التي تنطبق عليها هذه المادة ويعتبر استعمالاً عشوائياً أي نصب لهذه الأسلحة." على الرغم من أن هذه الإتفاقية لم تتطرق لحق الدول بالتحفظ الذي عادة ما يتعلق بأحد أو بعض النصوص، فالأمر يستوجب في مثل هذه الأحوال، حال عدم الإشارة لحق الإنسحاب في الاتفاقية، تطبيق نص المادة 19 من اتفاقية فيينا لقانون المعاهدات، والتي نص على أن "للدولة، لدى توقيع معاهدة ما أو التصديق عليها أو قبولها أو إقرارها أو الانضمام إليها، أن تبدي تحفظا، إلا إذا: (أ) حظرت المعاهدة هذا التحفظ؛ أو(ب) نصت المعاهدة على أنه لا يجوز أن توضع إلا تحفظات محددة ليس من بينها التحفظ المعني؛ أو(ج) أن يكون التحفظ، في غير الحالات التي تنص عليها الفقرتان الفرعيتان (أ) و(ب)، منافيا لموضوع المعاهدة وغرضها." وبالتالي فإن التحفظات يجوز ابداؤها في هذا المقام ما لم تكن تحفظات منافية لموضوع المعاهدة أو غرضها. ومن حيث الواقع العملي فإن العديد من الدول قد أبدت تحفظاتها على الاتفاقية وبعض البروتوكولات الملحقة بها، بشكل يفقد النصوص المتحفظ عليها وبالتبعية يفقد الإتفاقية لأثرها القانوني المبتغى. وقد لوحظ أن الإتفاقية لم تمنع أو تقيد حق الإنسحاب المتعلق بكامل نصوص الاتفاقية، وهو الأمر الذي يفرغ هذه الإتفاقية من محتواها القانوني، حيث سمحت في المادة 9 (فقرات 1، 2، 4) لأي طرف بـ "أن ينقض هذه الاتفاقية أو أياً من بروتوكولاتها المرفقة بها بأن يشعر الوديع بهذا النقض. ولا يبدأ مفعول أي نقض من هذا القبيل إلا بعد انقضاء سنة على استلام الوديع الإشعار بالنقض."
ثانياً: اتفاقية حظر استخدام وتخزين وإنتاج ونقل الألغام المضادة للأفراد وتدمير تلك الأسلحة لعام 1997:
فرضت هذه الإتفاقية على الدول الأطراف ضرورة اتلاف الألغام، سواء كانت مخزنة أم تمت زراعتها في حقول أرضية، ومنعت أي نوع من أنواع المساعدة أو التشجيع أو الحث على الدخول في أي نوع من أنواع هذه الأنشطة. وعلى الرغم من أن هذه الإتفاقية حظرت صراحة وبشكل جازم في المادة 19 التحفظ على أي بند من بنودها، إلا أنها، وللأسف، عادت لتسمح في المادة 20 (الفقرتين 2 و 3) للدول الأعضاء بالانسحاب من الإتفاقية، مما يفقد الإتفاقية القيمة القانونية الحقيقية التي سعى لها المؤسسون، ويجهض أية محاولات لمسائلة الدول المنسحبة أو المتحفظة، لأنها في الواقع تمارس حقاً من حقوقها الأمر الذي يجعل المسئولية الأخلاقية في مثل هذه الأحوال ضرورية لا كمالية.
ثالثاً: البروتوكول الثاني بشأن حظر أو تقييد استخدام الألغام والشراك الخداعية والنبائط الأخرى الملحق باتفاقية حظر أو تقييد استخدام أسلحة تقليدية معيّنة يمكن اعتبارها مفرطة الضرر أو عشوائية الأثر لعام 1996 :
يمنع هذا البروتوكول جميع أنواع القنابل ذات الطبيعة أضرار واسعة الانتشار أو تسبب آلام غير ضرورية. ولا شك أن لهذا البروتوكول الفضل في التضييق على القوات المسلحة التي تصر على استخدام الألغام وتتخذها جزءاً من استراتيجياتها العسكرية، فألزم الدول التي تصر على استخدام الألغام كأحد تقنياتها في النزاعات المسلحة، أن تتخذ التدابير الإحترازية اللازمة والضرورية لحماية السكان المدنيين من أية آثر قد يتسبب فيها استخدام هذه الألغام. وقد تجاهل هذا البروتوكول إلى حق الدول في التحفظ على نصوص هذا البروتوكول، مما يجعله محلاً لنص المادة 19 من اتفاقية فيينا لقانون المعاهدات الدولية، والتي سبق الإشارة لها سابقاً. أما بالنسبة للحق في الإنسحاب فقد كان منظماً بموجب نص المادة 9 من الإتفاقية الأصلية السابق الإشارة إليها عاليه، مما يزيد من أهمية القواعد الأخلاقية حال الإنسحاب من الإتفاقية وبروتوكولاتها. الفرع الثالث: عدم انطباق الاتفاقيات الدولية على كل الكيانات التي تشارك في النزاعات المسلحة، الأمر الذي يستحيل معه اخضاع مثل هذه الكيانات للمسئولية الدولية التي يرتبها مخالفة هذه الاتفاقيات: لا شك بأن الإتفاقيات الدولية تلزم أطرافها وذلك تطبيقاً للمبدأ القانوني العقد شريعة المتعاقدين. إلا أن هناك بعض الكيانات التي قد تستخدم الألغام، وليست محلاً للإتفاقيات الناظمة لمثل هذه الأفعال. مثل القراصنة والمرتزقة والحركات الإرهابية والميلشيات، ناهيك عن بعض الكيانات التي تتوافر لها عناصر الدولة، إلا أنها لم تحصل على الحكم الذاتي بسبب عدم اعتراف المجتمع الدولي لها بذلك. ومن أمثلة هذه الكيانات ميلشيات حزب الله في لبنان ومختلف الميليشيات في العراق وميليشيا بوكو حرام في نيجيريا. أما بالنسبة للقراصنة فقد عانت منهم الملاحة البحرية على مدى سنوات خاصة في المياه الإقليمية التابعة للصومال في البحر الأحمر. أما الكيانات التي توافرت لها عناصر الدولة إلا أنها لم تحز على الإعتراف الدولي الكفيل لها باكتمال شخصيتها الدولية فمنها على سبيل المثال إقليم كردستان العراق واقليم الصحراء الغربية في المغرب حيث لا يتوانى مقاتلو هذه الكيانات عن اقتناء واستخدام الألغام للضغط على الحكومات المركزية للحصول على حكمها الذاتي (كما في حال اقليم كردستان العراق) أو الإستقلال (كما في حالة الصحراء الغربية). وعلى الرغم من أن هذه الكيانات ترفض الإنضواء تحت لواء الدولة التي يمارسون أنشطتهم تحت مظلتها، إلا أنه لا يعني اعفائهم من المسئولية القانونية، حيث يملك المجتمع الدولي ملاحقتهم في حال رفض أو فشل الدولة التي يتواجدون في حدودها في ملاحقتهم، وتتحمل الدولة الآوية لهم المسئولية الدولية عن عدم القدرة على ملاحقتهم أو معاقبتهم. أما الكيانات التي لا تتمتع بالحكم الذاتي، وبالرغم من توافر عناصر الدولة فيها، فإنها عادة ترفض الإلتزام بما وقعته الدولة التي تصر على ضمها إليها من التزامات، بما في ذلك نبذ ومحاربة استخدام الألغام، وذلك من باب اثبات الإستقلال وانفصال التزامات كل منهما. إلا أن ذلك لا يعفيها من المسئولية الدولية كونها ما زالت تحت مظلة دولة أخرى، ولن تكون محل ترحيب دولي ولا محل اعتراف طالما أنها تحاول البدء بإثبات شخصيتها الدولية من خلال مخالفة قواعد مهمة في القانون الدولي مثل حظر استخدام الألغام. كل ذلك يجعل من المسئولية الأخلاقية أمراً غاية في الأهمية لتقييد مثل هذه الكيانات والحد من سلوكها في التعامل مع الألغام كتقنية من التقنيات العسكرية، حيث توزعت الكيانات المسلحة من غير الدول التي تستخدم الألغام خلال أواخر الألفية السابقة عبر 44 دولة. وبالتالي يبدو أن قواعد القانون الدولي قد أعدت لمخاطبة أشخاص القانون الدولي المعترف لهم بهذه الشخصية، أما الكيانات أو الأفراد فإن قواعد القانون الدولي لا تخاطبهم، إلا أنها تخاطب الدول التي تنضوي تحت مظلتها هذه الكيانات والأفراد. فما هي عناصر المسئولية الأخلاقية التي تقع على عاتق أشخاص القانون الدولي جراء استخدام الألغام؟

المبحث الثاني: عناصر المسئولية الأخلاقية والآثار المترتبة على استخدامها

كما للمسئولية الدولية عناصر وآثار، فإن للمسئولية الأخلاقية عناصر وآثار كذلك، وهو ما سنتناوله في المطلبين التاليين والذي سيسلط أولهما الضوء على عناصر المسئولية الأخلاقية، بينما سيركز الثاني منهما على آثار هذه المسئولية. إذا كانت عناصر المسئولية الدولية واضحة المعالم (خطأ وضرر وعلاقة سببية) فإنه لا بد من التأكيد على أن عناصر المسئولية الأخلاقية غير واضحة المعالم. ولكنها تنطلق من مخالفة الفعل لمبادئ الأخلاق المستقرة في عقيدة البشر، وانحرافها عن السلوك القويم الذي يتماشي مع الطبيعة البشرية القائمة على حب الخير ونبذ الشر. وعلى الرغم من ذلك، فإننا نعتقد بأنه لقيام المسئولية الأخلاقية لا بد من توافر أركان ثلاث: أولها: مخالفة قواعد الأخلاق مخالفة صارخة، وثانيها: عدم معاقبة الجناة من الدول المخالفة، وأخيراً: وجود نظام ديمقراطي تٌمارس فيه حرية ابداء الرأي أو التصرف دون منع أو تقييد. الفرع الأول: مخالفة قواعد الأخلاق المستقرة مخالفة صارخة: إن القول بأن المسئولية الأخلاقية غير واضحة المعالم إنما يرجع لحقيقة أن ليس كل الأفعال تعتبر شراً وليس كلها يعتبر خيرا، وإنما هناك مناطق تقع بين الإثنتين، ولا يمكن الإرتكان عليها لإقامة المسئولية الأخلاقية، فلا تقوم المسئولية الأخلاقية إلا على أعمال الشر بأقسى أنواعه، كما أن ما هو خير في منطقة من المناطق قد لا يعتبر خيراً في مناطق أخرى من العالم، والعكس صحيح فما هو شر في منطقة من مناطق العالم قد لا يعتبر كذلك في مناطق أخرى من العالم، وبالتالي لا يصلح أن يكون أساساً للمسئولية الأخلاقية سوى الإنتهاكات التي يشترك بها كل مناطق العالم وتتفق على أنها شراً خالصاً. ومن الضروري التنويه أن المعايير الأخلاقية للمجتمع الدولي في تغير مستمر، فما هو أخلاقي اليوم قد لا يعد أخلاقي غداً، ومن ذلك على سبيل المثال مشروعية نظام الإستعباد خلال القرن الماضي، ومحاربته اليوم واعتباره جريمة دولية، تستوجب الإعتذار عن هذه الممارسات اللاأخلاقية التي كانت تمارس في وقت ما. واليوم يتعرض المسلمون لحملة شرسة ومنظمة حول العالم، أدت إلى بروز مصطح الإسلاموفوبيا، وقد التقت كثير من دول العالم على التضييق على المسلمين في ممارسة عقيدتهم من رفع الأذان وصلاة الجماعة ولبس الحجاب، إلا أن هذا الأمر لن يدوم، وسيلتزم كل شخص من أشخاص القانون الدولي مارس أي نوع من أنواع التضييق على المسلمين بجبر ما تسبب به من آضرار، خاصة وأن هذه الممارسات لا تسقط بالتقادم، والدليل على ذلك والبين عليه ما يتمتع به اليهود من مزايا من حكومات ألمانيا المتعاقبة. ومن هذه القواعد الأخلاقية قواعد تبنتها مبادئ مستقرة في القانون الدولي كمبدأ الإنسانية والفروسية وشرط مارتن، والتي تعتبر مصدراً أساسياً من مصادر القانون الدولي، والتي سنتناولها بشيء من التفصيل: أولاً: مبدأ الإنسانية: يراد به أن تلتزم القوات المسلحة أثناء النزاع المسلح باحترام الإنسانية وأن يكون للتعامل الإنساني الرحيم الأولوية على تحقيق الغايات والأهداف العسكرية. ولا يعتبر استخدام الألغام متوافقاً مع مبدأ الإنسانية، حيث أن استخدامها يقوم على عنصر مفاجأة العدو، واستهدافاً للغير خاصة غير المقاتلين والبيئة الطبيعية دون تمييز، مما يتسبب بمقتلهم أو إعاقتهم دون أن يكون لهم أي شأن بالنزاع المسلح، وهو أمر لا تقره النفس البشرية وتنبذه الأخلاق، خاصة عندما يكون الضحايا من النساء والأطفال، أو المدنيين الذي – دون مبرر – يفقدون حياتهم ويتركون أسرهم أو يفقدون أحد أو بعض أطرافهم دون مبرر أو سبب. ثانياً: مبدأ الفروسية: مبدأ ينسب إلى فرسان أوروبا في العصور الوسطى لما كانوا يتسمون به من نبل أخلاقهم، والذي كان يمنعهم من مهاجمة خصومهم من الخلف، أو استهداف النساء والأطفال أو المرضى أو كبار السن، بل بالعكس لا يتوانون عن معالجة وإطعام خصومهم والإهتمام بهم ورعايتهم. إلا أن الواقع العملي يكشف الوجه القبيح لإستخدام الألغام التي تتسبب بسقوط أكبر عدد من المدنيين والنساء والأطفال وتخلف آثاراً اجتماعية وجسدية طويلة الأمد. فأخلاق الفرسان تستوجب مواجهة العدو، لا مباغتته باستخدام تقنيات عسكرية مثل الألغام، كما يستوجب تطبيق هذا المبدأ إبعاد هذه الألغام عن مناطق السكان المدنيين، والإعلان عنها بلوحات ارشادية واضحة وبارزة عند أماكن زراعتها، والإسراع برفعها بمجرد انتهاء النزاع. وخلاف هذه التصرفات فإننا نكون أمام خرق واضح لمبد الفروسية. ثالثاً: شرط مارتن: يعمل هذا المبدأ على حظر تطبيق القاعدة القانونية "كل ما لم يرد بشأنه نص فهو مباح" في العلاقات الدولية، والرجوع، حال غياب النص، إلى (العادات الراسخة بين الشعوب المتحضرة والقوانين الإنسانية وما يمليه الضمير العام). وقد لاقت هذه الفكرة قبولاً كان وراء اعتمادها في عدد من الاتفاقيات الدولية مثل المادة 1 الفقرة 2 من البروتوكول الإضافي الأول الملحق باتفاقيات جنيف الأربع لعام 1977، واستقرت باعتبارها قاعدة من قواعد الأخلاق في القانون الدولي. وعليه، فإن الألغام، حال غياب النص، تحكمها العادات الراسخة بين الشعوب المتحضرة والقوانين الإنسانية والضمير العام، وكلها تنبذ فكرة استخدام الألغام لما تتضمنها من مباغتة وعدم مواجهة وعدم تمييز. وقد اعتبرته محكمة العدل الدولية جزءاً من القانون الدولي العرفي. ويقوم هذا المبدأ أساساً على سيادة الأخلاق بين أطراف النزاع، وحال غيابها - لا سمح الله - فلا محل لإعماله، ومن شأنه أن يثير المسئولية الأخلاقية للدول المخالفة. الفرع الثاني: عدم معاقبة الجناة والدول المخالفة: ولقيام المسئولية الأخلاقية لا بد أن تكون الدولة مرتكبة الفعل قد تملصت من المسئولية القانونية وتملص أركانها - ممن ينسب لهم الفعل - من العقاب أو كان عقابهم لا يتناسب البتة وفداحة الفعل المنسوب لهم، كأن يتم مخالفة الاتفاقيات الدولية والتشريعات الوطنية التي تحظر الإتجار بـ / أو استخدام الألغام، مع ما يترتب على ذلك من سقوط الضحايا خاصة بين المدنيين، وتكون عقوبة الجناة لا تتجاوز الغرامة المالية الطفيفة، أو الحبس الذي يعقبه عفو أميري أو رئاسي أو ملكي، أو أن يكتفي المجتمع الدولي بإدانة الدول المنسوب لها المخالفات دون عقوبات رادعة، مما يمنع الردع الذي يبتغيه ويتمناه الضحايا وأهلهم وذويهم. أما لو كان الفعل وإن كان لا تقبله النفس البشرية وتستهجنه، وكان قد تمت معاقبة الجناة من الدول أو الأفراد، فإن مثل هذه العقوبات متى كانت رادعة ترضي النفس البشرية، وكفيلة بردع الآخرين، وبالتالي لا يكون هناك محلاً للمسئولية الأخلاقية التي تعتبر مجرد مسئولية احتياطية حال اخفاق المسئولية التقليدية لأن نتائجها في أسوأ أحوالها لن تكون أقسى على الجناة من المسئولية الدولية التقليدية. فالحكم بالحبس المؤبد أو الحبس عشرات السنين على الجناة، أو حصار الدولة وقلب نظام الحكم وملاحقات رموز النظام القديم، وتقديمهم للعدالة ومصادرة أملاكهم كفيلة بإجهاض المسئولية الأخلاقية قبل قيامها، لأن الردع المبتغى قد تحقق واكتمل، الأمر الذي يجهض المسئولية الأخلاقية ويفقدها غايتها.

الفرع الثالث: وجود نظام ديمقراطي تٌمارس فيه حرية ابداء الرأي أو التصرف دون منع أو تقييد:

في ظل تدخل المجتمع الدولي في شرعنة النظم الداخلية للدول من خلال محاربة النظم الديكتاتورية ومساندة الديمقراطية منها، والمساهمة في ارسال مراقبين دوليين لضمان نظام انتخابات ديمقراطية وفق المعايير الدولية، فإن المسئولية الأخلاقية تحتاج لتحقيق نتائجها نظاماً وطنياً ديمقراطياً يسمح للأفراد بالتعبير عن آرائهم في القول أو الفعل واتخاذ ما يشاؤون من أعمال أو أفعال لترجمة المسئولية الأخلاقية ضد الأفراد والكيانات التي لم تكن محلاً للمسئولية القانونية المترتبة على استخدام الألغام وما يترتب عليها من سقوط للضحايا. أما لو غاب هذا النظام الديمقراطي فإن المسئولية الأخلاقية وإن تحققت باقي عناصرها، فإن الأفراد والمؤسسات لن يتمكنوا من التعبير عن رأيهم بالقول أو الفعل، فلن تقول أو تفعل إلا ما تمليه عليها السلطات الحاكمة الديكتاتورية، وإلا تم إجهاض مثل هذه المحاولات وتلفيق التهم لأصحابها وزجهم في غياهب السجون. المطلب الثاني: آثار المسئولية الأخلاقية لا يترتب على المسئولية الأخلاقية معاقبة الجناة ومنتهكي قواعد الأخلاق بناء على القانون، ولا يتم تطبيق مبدأ لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص أو قاعدة المتسبب بالضرر يلتزم بالتعويض، ولكن من أهم آثار المسئولية الأخلاقية هي نبذ الجناة واستهجانهم في مجتمعاتهم وخارجها، وعدم تقديم الاحترام والتقدير لهم، بخلاف أقرانهم ممن لم يخالفوا هذه القواعد، بل وأحياناً يتم التضييق عليهم وعلى أتباعهم وذويهم في ممارستهم لأنشطتهم، فيصعب عليهم إيجاد من يتعامل معهم أو يمدهم بالمواد الخام، أو يستهلك منتجاتهم، كما يصعب عليهم التنقل بحرية ونقل بضائعهم في أرجاء الدولة أو عبر الدول، حيث يرفض البعض السماح لهم بتمرير هذه المنتجات كما يصعب عليهم إدخالها بذات السهولة عبر المنافذ الجوية أو البرية أو البحرية في كل دول العالم. وتستمر آثار المسئولية الأخلاقية حتى بعد موت الجناة، حيث لا يلاقون إلا تقليل القدر واستخدامهم في ضرب الأمثلة على انعدام الأخلاق والتسبب في ما لحق البشرية من أضرار بشرية قد تستمر مع الضحايا طيلة حياتهم، سواء من بتر الأطراف أو التشوهات، بينما المسئولية القانونية تنقضي بمجرد وفاة من نسبت لهم، خاصة إذا ما تمت تسوية آثار هذه المسئولية من معاقبة الجناة الأمر الذي يريح الضحايا وذويهم، أو دفع التعويضات المناسبة لهم، لتكون لهم عوناً في مواجهة الحياة مع ماسببته لهم هذه المسئولية القانونية من أضرار. ومن ذلك على سبيل المثال، اختباء قائدي الطائرتين الأمريكيتين اللتين ألقيتا القنبلتين الذريتين على كل من هيروشيما وناكازاكي في اليابان في نهاية الحرب العالمية الثانية محققين الإنتصار للولايات المتحدة الأمريكية. إلا أن الخسائر التي تسببا بها كانت مثار استهجان عالمي، كان وراء اختفائهما حال حياتهما ودفنهما بشكل سري بعد وفاتهما. ومن آثار المسئولية الأخلاقية تعاون المجتمع الدولي بكافة دوله وخصوم الأمس، في سبيل نزع الألغام باستخدام التكنولوجيا العسكرية المتقدمة التي قد لا تتوافر لجميع دول العالم. وفي هذا المقام فقد قدمت ألمانيا لجمهورية مصر العربية (110) جهازاً مكتشفاً للألغام بينما قدمت بريطانيا (75) جهازاً مماثلاً، ودربت ايطاليا عددا من ضباط جمهورية مصر العربية على نزع الألغام. وفي زيارة للمستشار الألماني السابق هيلمت كول إلى اسرائيل، استقبله المواطنون بقذف البيض عليه تعبيراً عن غضبهم على ما نسب لألمانيا تجاه اليهود إبان الحرب العالمية الثانية. وقد كان لهذا الهيجان الشعبي تجاه المستشار الألماني أثره، مما انعكس قانونياً باعتذار رسمي من الحكومة الألمانية عما ارتكبه النازيون من جرائم في حق اليهود، كما تحملت الحكومة الألمانية مسئولية دفع تعويضات لذوي الضحايا، وتعهدات بتقديم مساعدات عسكرية. كل هذه الإنجازات التي صبت في صالح اسرائيل لم تكن نتيجة مسئولية قانونية، وإنما مسئولية اخلاقية بحتة. وأثناء زيارة للرئيس الأمريكي جورج بوش الإبن إلى العراق، قام أحد الصحافيين برميه بحذائه، تعبيرا عن استيائه من سياسته في العراق، وقد لاقى هذا التصرف استحسان البعض، على الرغم من خرقه للبروتوكولات الدبلوماسية بين البلدين. وعدد من الوقائع المماثلة تكررت مع وزير الدفاع الأمريكي السابق رامسفيلد أثناء إحدى المناسبات حيث كان الجمهور يصيح في وجهه (مجرم حرب) لما نسب له من تعليمات كان أثرها ارتكاب جرائم في حق العراقيين. وهو الأمر الذي كشف للجميع أن عدم معاقبة أي مسئول أو متسبب بانتهاك القانون، بسبب ضعف القانون أو حصانة المعني أو التحفظ على الإتفاقية أو الإنسحاب منها أو حتى الإعراض عن الإنضمام لها، لا يعني الإفلات الكلي من المسئولية، حيث تظل المسئولية الأخلاقية تلاحقه هو وذويه في كافة تحركاته ولقاءاته واجتماعاته، مما يتسبب في إحراجه، ويحول بينه وبين الظهور العلني في بعض الأحيان. وتجاوباً مع المسئولية الأخلاقية، خاصة في دول تعاني من نزاعات مسلحة مع دول مجاورة، يستخدم خلالها الألغام، مثل الوضع بين الكوريتين، حيث تبنى البرلمان الكوري الجنوبي عام 2014 قانوناً خاصاً لمساعدة ضحايا الألغام الأرضية من السكان المدنيين، دون أن تقوم هذه المساعدة على نصوص وقواعد القانون التقليدية. وتطبيقاً لآثار المسئولية الأخلاقية فقد صرحت الولايات المتحدة الأمريكية أنها ستمنح، وبشكل ودي وانطلاقا من اعتبارات انسانية وليست قانونية، تعويضاً لأسر المجني عليهم الـ (290 شخصاً)، ضحايا اسقاط المدمرة الأمريكية إفينس، في 3 يوليو 1988، لطائرة إيرانية بحجة أن الإسقاط تم أثناء اشتباك مع بعض الزوارق الإيرانية المسلحة بالخليج. ولا تسلم الحكومات التي تتوانى عن إثارة المسئولية القانونية في مواجهة الدول التي تستخدم الألغام بالمخالفة لقواعد القانون الدولي وتتسبب بإلحاق الضرر بالضحايا وذويهم، وتتجاهل هذه الحكومات ملاحقة الجناة من الأفراد أو الدول. فالحكومات اليوم وإن ملكت السلطة والسطوة في محاباة ومجاملة الدول التي تتسبب نتيجة لإستخدام الألغام في سقوط الضحايا من مواطنيها، فإنها تضع مصيرها في مهب الريح، حيث أن الحيلولة دون تمام المسئولية القانونية لا يحول دون إثارة المسئولية الأخلاقية والتي من شأنها في بعض الأحوال أن تتسبب في تغيير حكومات وقلب نظم. ومن أوجه جبر المسئولية الدولية في القانون الدولي الترضية، وهي غالباً لا تكون إلا في حالات الأضرار المعنوية التي تلحق أشخاص القانون الدولي، ومنها الانتهاكات الأخلاقية التي تمس الحقوق المعنوية أو الأخلاقية في القانون الدولي. الخاتمة ان استخدام الألغام في السلم والنزاعات المسلحة يعتبر عملاً مخالفاً لقواعد القانون الدولي ولمبادئ الأخلاق، ومن هذا المنطلق بدأ المجتمع الدولي في محاربتها من أجل الحد من استخدامها تمهيداً للوصول إلى الحظر التام. ومن أهم دوافع هذا الحظر هو طبيعة هذا السلاح الذي يتنافى مع قواعد القانون ومبادئ الأخلاق، ولما يلحقه هذا السلاح من أضرار بالضحايا من الأفراد والبيئة الطبيعية وكذلك اضراره باقتصاد الدول والحياة اليومية للسكان. وقد كانت الوسيلة المعتادة لمحاربة هذا السلاح غير الأخلاقي في الاستعمال هو سن الاتفاقيات الدولية والتي لم تفلح تماماً في الحظر التام للألغام. وأمام فشل المجتمع الدولي في القضاء الكلي على استخدام الألغام وتحريمها، إما لأسباب تعود لسيادة الدول وعدم القدرة على إرغامها القيام بعمل لا يناسب مصالحها ويتعارض مع سيادتها، مثل الانضمام للاتفاقيات الدولية التي تحد من استخدام الألغام، أو لطبيعة الإتفاقيات الدولية التي تحظر استخدامها، والتي تتضمن حق الدول الأعضاء بالانسحاب أو التحفظ، أو لأن الاتفاقيات الدولية - التي تحارب استخدام الألغام - لا تنطبق على بعض الكيانات الدولية التي تستخدمها مثل الثوار المحاربين أو الإرهابيين، فلم يكن هناك بد من اللجوء إلى وسيلة تكميلية للمسئولية الدولية، ألا وهي المسئولية الأخلاقية. والمسئولية الأخلاقية المقترحة، من وجهة نظرنا، شأنها شأن المسئولية الدولية، لها عناصر وآثار. ومن أهم عناصرها مخالفة الفعل للقواعد الأخلاقية في القانون، فإذا كانت مخالفة القواعد القانونية ترتب مسئولية قانونية، فإن مخالفة القواعد الأخلاقية ترتب مسئولية أخلاقية. وما يستثير المسئولية الأخلاقية - في هذا المقام - هو عدم تطبيق المسئولية القانونية الدولية، فهي مسئولية احتياطية لا تقوم إلا بغياب المسئولية الدولية، ولا تقوم معها. فإذا أفلت الجناة من المسئولية القانونية، فلا مفر من ملاحقتهم استناداً للمسئولية الأخلاقية. ومن متطلبات قيام المسئولية الأخلاقية قيام نظام ديمقراطي، حيث إنها ترتكز أساساً على التحركات الشعبوية غير المنظمة والتي لا يمكنها أن تبرز للعلن في ظل نظام ديكتاتوري، يكبت الحريات ويمنع التعبير عنها. أما بالنسبة لآثار هذه المسئولية فهو إلحاق العار بمنتهكي قواعد الأخلاق، ونبذهم في المجتمع، تمهيداً لإجبارهم على الاعتذار أو تصحيح الأوضاع، وذلك ليكونوا عبرة لمن يليهم، ويحاول أن ينتهج منهجهم. وبالتالي فإن المسئولية الأخلاقية ليست بديلاً عن المسئولية القانونية التقليدية، وإنما هي مساندة لها في حالات الضعف والغياب، فقيام المسئولية الأخلاقية في غياب المسئولية التقليدية خير من انعدام المسئولية تماماً. نعم لم تنجح المسئولية الأخلاقية تماماً في ملء الفراغ الذي يعتري المسئولية القانونية التقليدية، لا لعيب فيها، ولكن لأن المجتمع الدولي ما زال غير مستعد لتقبل إسناد المسئولية على الدول بناء على قواعد أخلاقية لا قيمة قانونية حقيقية لها بعد، الأمر الذي يستوجب تسليط الضوء على هذا النوع من المسئولية والقبول به من خلال السماح للمنظمات الدولية غير الحكومية بالقيام بدورها في هذا المقام، بل والتعاون معها وصولاً إلى السماح للقواعد الأخلاقية بأن تأخذ مساحتها في محاربة استخدام الألغام، خاصة عندما تفشل المسئولية القانونية التقليدية في تحقيق غاياتها. وكذلك السماح للأفراد بالتعبير عن رأيهم في مواجهة المتهمين بانتهاك القواعد الأخلاقية، لربما يكون لها دور في التضييق على هؤلاء الجناة ومن يحاول أن يسلك مسلكهم في المستقبل. وفي الختام، لا بد من العمل على تطوير نظام المسئولية الأخلاقية وذلك من خلال تقنين القواعد الأخلاقية، وجعلها واضحة لا خلاف بشأن مضمونها أو نتائجها، وتكاتف المجتمع الدولي لاستخدامها دولياً وتشجيع المجتمعات المحلية على تبنيها خاصة في حال عجز القواعد القانونية عن مسائلة الجناة والمخالفين. المسئولية الأخلاقية لا يجوز الإفراط في استخدامها حتى لا تتغلب على المسئولية التقليدية، خاصة وأن المسئولية التقليدية راسخة وواضحة المعالم، والمسئولية الأخلاقية لم تأتِ لتكون بديلاً للمسئولية التقليدية، وإنما هي رديفة لها. بما أن المحرك لهذه المسئولية هم الأفراد في النظم الديمقراطية والمنظمات غير الحكومية، واللذان لا يستوعبان المصالح العليا للدول وسيادتها، فحتى لا تخرج الأمور عن السيطرة ويساء استخدام المسئولية الأخلاقية لا بد من تنظيمها، وأن تكون معبرة عن انتهاك قواعد أخلاقية دولية مشتركة وليست قواعد أخلاقية وطنية. ويمكن بعد سنوات من الآن أن نرى أن المسئولية الأخلاقية قد حجزت مكانها في العلاقات الدولية وتقدمت كمت تصورنا لتكون رديفة للمسئولية الدولية وبديلاً لها حال غيابها أو فشلها. قائمة المراجع الكتب العربية: 1) اللجنة الدولية للصليب الأحمر، القانون الدولي المتعلق بسير العملياات العسكرية، مجموعة اتفاقيات لاهاي وبعض المعاهدات الأخرى، جنيف الطبعة الثانية، سبتمبر 2001. 2) جون ماري هنكرتس ولويز دوزوالد بك، القانون الدولي الإنساني العرفي، المجد الأول، 2007. 3) شادي خالد معروف المسئولية الدولية عن إزالة الألغام دراسة مقارنة دار الكتب القانونية دار شتات للنشر والبرمجيات. 4) محمد صالح التميمي المسئولية المدنية عن الأضرار الناتجة عن زرع الألغام في القانون الداخلي والدولي دراسة مقارنة اشراف د بدر اليعقوب أطروحة ماجستير جامعة الكويت 2002. 5) محمد يوسف علوان القانون الدولي العام النظرية العامة والمصادر دار وائل للنشر والتوزيع الأردن 2021. الكتب الأجنبية: 1) JODY WILLIAMS; STEPHEN D. GOOSE AND MARY WAREHAM ED. Banning Landmines Disarmament, Citizen Diplomacy, and Human Security ROMAN & LITTLEFIELD PUBLISHER, 2008. 2) Louis Marisca Ed. The Banning of Ant-Personnel Landmines The Legal Contribution of The Committee of the Red Cross 1955-1999 Cambridge Univ. Press 2009. 3) Mike Croll The History of Landmines 1998. 4) Rae McGrath Landmines and Unexploded Ordnance Plutto Press 2000. الأبحاث العربية: 1) د أحمد أبو الوفا، المسئولية الدولية للدول واضعة الألغام في الأراضي المصرية: دراسة في إطار القواعد المنظمة للمسئولية الدولية وللألغام البرية، المجلة المصرية للقانون الدولي (الجمعية المصرية للقانون الدولي (مصر)، مجلد 57 (2011). 2) أحمد أبو الوفا، المسئولية الدولية للدولة واضعة الألغام في الأراضي المصرية:دراسة في إطار القواعد المنظمة للمسئولية الدولية وللألغام البرية، المجلة المصرية للقانون الدولي، 2001، مج 57. 3) احمد زكريا، قانون النزاعات المسلحة، مجلة الجيش، عدد 372 حزيران 2016. 4) أحمد عبيس الفتلاوي، مشروعية استعمال بعض أنواع الأسلحة التقليدية في ضوء قواعد القانون الدولي الإنساني، مجلة الكوفة، ع 2. الأبحاث الأجنبية: 1) Arthur H. Westing (Editor), Environmental Warfare, A Technical, Legal and Policy Appraisal, SIPRI, Taylor and Francis, London and Philadelphia, 1984. 2) Cassady B. Craft, Suzette R. Grillot, Conventional Arms Control and the Environment: Mitigating the Effects of War, Paper prepared for the symposium: Arms and the Environment: Preventing the Perils of Disarmament, Tulsa, Oklahoma, Dec. 9-10, 1999. 3) Group of specialists, Kuwait Center for Studies and Research, Kuwait, 1998, p.168. 4) Jean-Marie Henckaets AND Louise Doswald-Beck, Customary International Humanitarian Law, ICRC and Cambridge University Press, Vol I, 2005. 5) Ken Rutherford, State Legal Obligations to Landmine Victim Assistance, 7 U.C. Davis J. Int'l L. & Pol'y 41, at 42 (Winter, 2001). الوثائق 1) البروتوكول الثاني بشأن حظر أو تقييد استخدام الألغام والشراك الخداعية والنبائط الأخرى الملحق باتفاقية حظر أو تقييد استخدام أسلحة تقليدية معيّنة يمكن اعتبارها مفرطة الضرر أو عشوائية الأثر لعام 1980. 2) Convention on the Prohibition of the Use, Stockpiling, Production and Transfer of Anti-Personnel Mines and on their Destruction, Sept. 18, 1997, 35 I.L.M. 1439 (1996) 3) فتوى محكمة العدل الدولية بشأن استخدام الأسلحة النووية أو التهديد باستخدامها، 1996. 4) CIPJ, Ser. A, No. 9, 17. 5) ICJ, Rep., 1986, at 111. 6) ICRC, Anti Personnel Land Mines: Friends Or Foes?, Study of the Military Use Effectiveness of Anti Personnel Land Mines, ICRC, Geneva, March 1996, at 40. 7) Protocol on Prohibition or restriction on the Use of Mines, Booby-Traps and Other Devices, 1997 WL 49691. 8) ICTY, Trial Chamber, Prosecutor v. Dario Kordic & Mario Cerkez, Judgement, 26 February 2001. 9) Landmine Monitor 2016, Report from International Campaign to Ban Landmines, Cluster Munition Coalition, 22 Nov 2016. 10) United Nations War Crimes Commission, Law Reports of the Trials of the War Criminals, Hostages case, Vol. XI. الصحف والمجلات 1) The New York Times, Mines Maim the Ultimate Civilians: Animals, March 5, 2001. 2) أحمد خميس، لفم يودي بحياة راعي أغنام بجوار اللواء السادس، جريدة الأنباء الكويتية، العدد الإلكتروني، 15 أبريل 2018. المواقع الإلكترونية 1) Norway's Government Pension Fund Guidelines, , (last visited May 25, 2018). 2) Robert Keeley, Understand Landmines and Mining Action, Sept. 2003, available at , (last Visited May, 25, 2018). 3) Safe Drinking Water Foundation, Mining and Water Pollution, Jan. 23, 2017, available at , (last visited May, 14, 2018). 4) أخلاقيات القانون الدولى: وقف المساعدات عن انوروا نموذجا، منشور في سودنيل، بوابة الرأي السوداني [sudanile.com] . هذا والله الموفق

  • تاريخ
  • عميل
  • فئة
  • مشاركة
الى الأعلى